مقدمة الخطبة
الحمد لله الغفور الرحيم، الغني الكريم، لا تنقضي خزائنه، ولا يخيب من رجاه واسترحمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واسع الرحمة، عظيم المغفرة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، أزكى الخلق نفسًا، وأطهرهم قلبًا، وأكثرهم استغفارًا، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه، ومن سار على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي المقصّرة بتقوى الله، فهي الزاد لمن أراد النجاة، والركن الركين في زمن الفتن والشتات.
الخطبة الأولى
عبادَ الله: لقد شرعَ الله ﷻ الاستغفار وأمر به، وجعله قربة تظهر عبودية الإنسان، لأنه من علامات الايمان، جاء في الحديث القدسي: «يقول الله ﷻ: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً » سنن الترمذي.
والاستغفار هو طلب المغفرة من الله ﷻ، وهو عبادة مطلوبة بذاتها، لأن معناها التذلل لله ﷻ والخضوع له سبحانه، والاعتراف له بالألوهية والربوبية، قال رسول الله ﷺ: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» صحيح مسلم.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه : (إِنَّ فِي كِتَابِ اللهِ لَآيَتَيْنِ مَا أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَرَأَهُمَا فَاسْتَغْفَرَ اللهَ إِلَّا غَفَرَ اللهُ لَهُ) {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ} [آل عمران: 135]، وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] “. المعجم الكبير للطبراني.
واعلموا أن شروط الاستغفار في النفس ثلاثة، شرط فيما يخص الماضي. وشرط فيما يخص الحاضر. وشرط فيما يخص المستقبل.
أما بالنسبة للماضي فعلى المستغفر الندم على ما فعله والخوف من عواقبه، يقول رسول الله ﷺ: “الندمُ توبةٌ” سنن ابن ماجه. وفي الحاضر أن يترك ما هو واقع فيه فوراً، يقول الله ﷻ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) آل عمران: 135. وفي المستقبل العزم على عدم العود إليه. ولو ضعف فوقع فيه مرة أخرى فليلزم الاستغفار. قال رسول الله ﷺ: “إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا – وَرُبَّمَا قَالَ أَذْنَبَ ذَنْبًا – فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ – وَرُبَّمَا قَالَ: أَصَبْتُ – فَاغْفِرْ لِي، فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا، أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ – أَوْ أَصَبْتُ – آخَرَ، فَاغْفِرْهُ؟ فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا، وَرُبَّمَا قَالَ: أَصَابَ ذَنْبًا، قَالَ: قَالَ: رَبِّ أَصَبْتُ – أَوْ قَالَ أَذْنَبْتُ – آخَرَ، فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثَلاَثًا، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ ” متفق عليه.
عباد الله: علمنا سيدنا محمد ﷺ سيّد الاستغفار: قال رسول الله ﷺ: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ قَالَ وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» صحيح البخاري، فعلينا أن نواظب عليه.
وقال رسول الله ﷺ: “من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه، غفر له، وإن كان قد فر من الزحف” سنن أبي داود.
هذه أيضًا ⇐ خطبة: الاستغفار… فضله وثمراته – مكتوبة
الخطبة الثانية
الحمد لله الغفور الودود، يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، خير من استغفر ربه وقام في الأسحار مخبتًا راكعًا ساجدًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله، عليكم بسيد الاستغفار، فإنه مفتاح الغفران، وطريق الأمان، ومجلبة للرزق، ودافع للبلاء، وسبب في محو الذنوب وعظيم الخطايا. كيف لا، وقد قال فيه سيد الأنام: “من قاله من النهار موقنًا به فمات من يومه قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة، ومن قاله من الليل وهو موقن به فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة”؟
فاستكثروا من الاستغفار، بالأسحار وفي الأسفار، في الخلوات والجهر، وكونوا ممن قال الله فيهم: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾.
توبوا إلى ربكم بقلوب نادمة، وألسنة ناطقة، وجوارح تائبة، فإن باب التوبة مفتوح، والرحمة لا تحدّها حدود، والربّ يدعو عباده: “يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله…”.
اللهم اجعلنا من المستغفرين، ووفقنا لصدق التوبة والإنابة، واغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، إنك أنت التواب الرحيم.
هذا، وصلوا وسلّموا على سيد المستغفرين، وإمام المتقين، محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك ربكم في محكم كتابه…