خطبة عن الإنفاق في سبيل الله قد تكون سببًا في تحريك قلوب وعقول ومشاعر المستمعين لها لأن يبذلوا كل خير وفضل. فقد نجد من بين المُصَلّين من تكاسل أو تباطأ عن إخراج الزكاة، ومنهم من يبخل -ولو بالقليل- من الصدقات، وبعضهم يجهل فضل الوقف وأجره ودوره في مساعَدة الغير من المسلمين.
وفي هذا الصَّدد نسوق لكم خطبة جمعة مكتوبة عن فضل الإنفاق في سبيل الله؛ سواء بالوقف أو الصدقة أو الزكاة.
مقدمة الخطبة
الحمد لله رب العالمين، يخلف على المنفقين، ويرفع درجات المحسنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يضاعف لمن يشاء وهو خير الرازقين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، أجود بالخير من الريح المرسلة، وموئل اليتامى والفقراء والمساكين، ﷺ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله- وأنفقوا مما رزقكم الله ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ | الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾.
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون؛ إن من مظاهر توفيق الله للإنسان أن يحرص غاية الحرص على أن تجري حسناته بعد مماته، ويبقى ذكره بعد وفاته؛ فيكون مقتديا بأبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- الذي سأل ربه أن يجعل له لسان صدق في الآخرين، وما لسان الصدق في الآخرين إلا الأعمال الصالحة التي تبقى للإنسان بعد حياته.
وإن من أعظم تلك الأعمال الوقف، وما أدراك ما الوقف، إنه من الصدقة الجارية التي أخبر عنها النبي ﷺ، فيجد الإنسان نفسه يوم القيامة أنه عاش سنين طويلة فوق عمره، بل قد يكون عاش قرونا من الزمان، ولله فهمُ أبي طلحة الأنصاري لقول الله تبارك وتعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم﴾، فقد فهم أن نيل درجة البر يكون بالصدقة بخير ماله الذي يبقى بعد مماته، وقد وفقه الله فوقف بيرحاء صدقة لله، يرجو برها وذخرها عند الله.
فبقيت بيرحاء إلى يومنا هذا – عباد الله – وأين أبو طلحة! وكم مضى على وفاته! مضى على وفاته أكثر من ألف وأربعمائة سنة، ووقفه باق إلى يومنا هذا، وقد كان الناس على قلة ما في أيديهم يقفون ولو شيئا قليلا – فالقليل عند الله كثير- ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾، فيقفون النخلة والنخلتين، ويقفون شيئا مما يملكون من ماء الأفلاج والآبار، ومن وسع الله عليه زاد؛ فذهبوا وبقيت أوقافهم، ورحلوا ولم تنقطع أعمالهم.
فكان حريا بالناس وقد وسع الله على كثير منهم في هذا الزمان أن يقفوا من مالهم، ويقدموا لحياتهم، وذلك الذي لك من مالك؛ فليس لك – يا ابن آدم – من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت.
وخير الوقف وأحسن الصدقة – أيها المؤمنون – ما أمضاه الإنسان في حياته، وجرت عليه حسناته قبل مماته، وقد جاء رجل إلى النبي ﷺ، فقال يا رسول الله: أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: «أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى. ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان».
وقد تنافس السابقون في الوقف في شتى صنوف الخير؛ فتجد عشرات الأنواع من صنوف الوقف، حتى إن الإنسان ليجد وقفا لعصي العميان، ووقفا للحيوانات الجائعة، ووقفا لذوي الأمراض المعدية، ووقفا للعلم والمتعلمين، ووقفا لنسخ الكتب وإصلاحها، ووقفا لابن السبيل ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾، فكانت أوقافهم أجورا لهم، وبركات على من بعدهم، وسببا لصلاح ذرياتهم، كيف لا! وربنا جل جلاله يقول: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
ولا يلزم – عباد الله – أن يقف الإنسان شيئا بمال كثير لمن لا يجد، بل كل بحسب استطاعته ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾، وإن في السهم الوقفي، الذي فتحت أبوابه، بغية من لا يجد الكثير؛ فيمكنه أن يسهم بما قدر، وينفق ما يستطيع؛ ليجد نفسه صاحب وقف بفضل الله، ولو أسهم بجنيهات أو عشرات من الجنيهات.
وقد أثنى الله على المؤمنين الذين أنفقوا ملء كف أو كفين في سبيل الله في ساعة العسرة، وعاب على أولئك المنافقين الذين لمزوهم، فقال: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم، إنه هو البر الكريم.
وهنا: خطبة عن الزكاة وفوائدها «مكتوبة»
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، ﷺ وعلى آله وصحبه وأتباعه المهتدين الهداة.
أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن الله سبحانه وتعالى قد جعل في المال حقين: حق إيتاء المال ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وحق الزكاة.
وقد ذكر الله الحق الأول قبل حق الزكاة؛ تذكيرا به، وتنبيها عليه؛ حتى لا يظن ظان أن الواجب في المال هو الزكاة فقط، يقول ذو الجلال والإكرام: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾.
وإن من مظاهر الغفلة عن الحق الأول أن يسأل سائل عن جواز إعطاء الزكاة لأبيه أو أمه، أو أخيه أو أخته، غافلا أن لهم في المال حقا غير الزكاة، فإن كان عندك من المال ما وجب عليك أن تخرج منه الزكاة، كان حريا بك أن تخرج لهم من أصل المال لا من الزكاة.
والعجب من غني تكون زكاته بالآلاف ويدفعها إلى ولده، وكان يمكنه أن يعطيه أضعاف الزكاة من أصل ماله؛ فكان أشبه بمن جلب بالزكاة مغنما، والزكاة لا يجلب بها المزكي مغنما، ولا يدفع بها مغرما، وقد حذر النبي ﷺ أولئك الذين يضعون الزكاة في غير مستحقها، وسمى فاعل ذلك متعديا، وجعل حكمه كحكم مانع الزكاة -والعياذ بالله- فقال النبي ﷺ: «لا صلاة لمانع الزكاة، لا صلاة لمانع الزكاة، لا صلاة لمانع الزكاة، والمتعدي فيها كمانعها»، ومن أدى زكاة ماله طيبة بها نفسه، دخل جنة ربه.
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
وهنا أيضًا تجِد: خطبة جمعة عن ثمرات الصدقة وفوائدها في الدنيا والآخرة