مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي جعل الصلاح أساس النجاح، والإصلاح بين الناس خير وسيلة إلى الفلاح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، أحرص الناس على التآلف، وأبعدهم عن كل شقاق وتخالف، ﷺ وعلى آله وصحبه أجمعين، وكل من تبع نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله: اسعوا إلى جمع شمل الناس تهنؤوا، وطبقوه فيما بينكم تسعدوا، واعتصموا بعراه ترتقوا، وما دمتم عليه حريصين، وبالتواد مستمسكين ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾.
الخطبة الأولى
معشر الحريصين على التآلف: اعلموا -زادكم الله ألفة ومحبة- أن من خير ما حرص عليه الإسلام أن يكون الناس متآلفين متحدين، وعن الخصام والشحناء مبتعدين، فابذلوا جهدكم ليجتمع الناس على خير ما تجتمع عليه القلوب من حب الخير للآخرين، والسعي إلى جمع كلمتهم على مبادئ الحق والدين؛ فإنها خير بضاعة، وأفضل ما تمسك به المرء من مسلك صالح وطاعة؛ من أجل ذلك جاءت الآيات الكريمة حاضة على الصلح، حاثة عليه، آمرة بكل ما يحققه ويؤدي إليه، قال تعالى: ﴿لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، قال أحد العلماء: “قوله تعالى: ﴿أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾، عام في الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين”.
ومن حض القرآن على الإصلاح بين الناس قوله تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾، وهل أغفلت السنة النبوية هذا؟ أو كانت بمنأى عنه؟ لا، بل أولته العناية، وأربت في بيان فضله على الغاية، قال ﷺ: «تعدل بين الاثنين صدقة»، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة»، ولفضل ذلك قال أحد الصالحين: “ما من خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين”.
أيها المؤمنون: إن للإصلاح بين الناس صورا متنوعة، ونماذج في الخير متعددة، فمنها الإصلاح في أمر الوصية ﴿فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، فمن خشي من الموصي أن يظلم، أو أن يقع في ميل عن الحق، أو انحراف عن التطبيق الصحيح فليسع إلى الصلح بين الموصي والموصى لهم.
ومن أهم الصور أيضا الصلح بين الزوجين ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾، وإن كان الصلح عموما ذا أجر عظيم، وأهمية بالغة، فإنه في حق الزوجين آكد، وإن الحرص عليه أقوى؛ لأن الصلح بينهما وتآلفهما سائق إلى استقرار الأسرة، والتحام صف الأولاد، وهو مظنة العيش الهنيء الآمن، والراحة الاجتماعية المطمئنة، وهل يحتاج الأولاد -ليكونوا سعداء منتجين- إلى أكثر من أسرة مستقرة، وأبوين يحب بعضهما بعضا! ولما للأسرة من قيمة جاء حرص الإسلام عليها مضاعفا، فإن حصل بين الزوجين الشقاق فيلجأ إلى ما يلم شمل الأسرة، ويرأب صدعها، قال تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾، حرصا على أن يبقى الزوجان في وفاق، بعيدين عن كل فرقة وشقاق! فلك الحمد -ربنا- على نعمة الإسلام.
وإن مما يدخل في أمر الإصلاح أيضا الصلح بين عموم المسلمين، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، فلا يهنأ بال الإنسان وهو يرى جاره يخاصم غيره، ورجلا يهجر أخاه، بل أمه وأباه! وإن مما يأسف له العقلاء، ويتأذى منه أولو الحكمة والصفاء، أن يروا من يهجر غيره سنوات لأجل متاع من الدنيا زائل، وبضاعة فانية، والله المستعان!
فاتقوا الله -عباد الله-، في علاقاتكم، اجمعوا شملكم، وألفوا بين قلوبكم؛ فبذلك تقوى مجتمعاتكم، وتلتحم صفوفكم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
هذه أيضًا ⇐ خطبة عن فضل إصلاح ذات البين – مكتوبة «كاملة، بالعناصر»
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أكرمنا بمجتمع بالتآلف يسمو، وإلى صفاء القلوب بين الناس يدعو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، أكثر الناس صفاء، وأفضلهم ودا ونقاء، ﷺ وعلى آله وأصحابه الطيبين، ومن سلك مسلكهم إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله: ما حض الإسلام على شيء إلا وجدت فيه الخير والبركة، والآثار والفوائد، فمن فوائد الصلح بين الناس على الفرد الحصول على الأجر العظيم، والبعد عن الذنب، والتمثل بالخيرية المذكورة في الحديث: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان: فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»، وقد قيل في التماس علة ذكر الأيام الثلاثة: “في اليوم الأول يسكن غضبه، وفي الثاني يراجع نفسه، وفي الثالث يعتذر”.
ومن ثمار الصلح أن ترجع بين المتخاصمين العلاقة، وتعود بينهما الألفة والمودة، فيحب كل منهما الخير لأخيه، ويسعى إلى ما فيه مصلحته ونفعه، لينطبق فيه قول المصطفى ﷺ: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
وبالصلح بين الناس تستقر الأوطان، وتقوى المجتمعات؛ فاتحاد الأفراد قوة للمجتمع ومنعة، وعز ورفعة، فإن كان الأفراد متعاونين متلاحمين كان الإنتاج كبيرا، والسعي إلى البذل والعمل وافرا ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾.
فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن من خير ما تقدمونه لمجتمعكم أن تكونوا يدا واحدة، تحرصون على تصافي القلوب وتوادها، وتراحمها وتكاتفها؛ فثم المجتمع المنتج، والدولة القوية، والبناء المثمر.
هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين؛ محمد الهادي الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.