وفي هذه الأيام المباركة من شهر رجب؛ نوفر لكل الأئِمَّة والخطباء والوُعَّاظ خطبة مؤثرة عن الإسراء والمعراج. الخطبة مكتوبة ومشكولة الآيات، وغزيرة الحِكَم والواعظ والإرشاد.
آملين أن تُلقى من أئِمَّة وخطباء الأمة الإسلامية وينتفع بها الجميع من أئِمة ومأمومين.
مقدمة الخطبة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله؛ خير نبي أرسل. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك، نبينا محمد، وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين، وآل كُلٍ، وصحب كلٍ أجمعين؛ وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين، وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.
أما بعد، فيا عباد الله؛ اتقوا الله حق تقاته بقلوبكم، واتقوه ما استطعتم بجوارحكم. واعلموا أن الدنيا متاعٌ قليل والآخِرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا.
الخطبة الأولى
معشر الإخوة، يقول مولانا ﷻ في محكم تنزيله ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾. الآية الأولى من سورة الإسراء.
يا معشر الإخوة، مع وفرة المعلومات في هذا العصر وكثرتها وغزارتها وسهولة تناولها، لكثرة الوسائل المُبذعرة في الهواء، بكثرة الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية؛ مع ذلك كله، فإن المتتبع لأحوال أبنائنا يجد أنهم يجهلون كثيرا من أصول دينهم، ومن سيرة نبيهم -عليه الصلاة والسلام-.
ولقد جلست مع طائِفة من أبنائنا الطلاب. وجرى حديث الإسراء والمعراج. لا سيما أن الناس في هذه الأيام أو في الأيام الماضية كانوا يتذكرون هذه الحادثة على أنها حصلت في السابع والعشرين من من شهر رجب. والصحيح أنه لم يثبت في ذلك شيء. لم يثبت السنة التي أُسري فيها بالنبي ﷺ ولا الشهر ولا اليوم. ولكن الثابت أن النبي ﷺ أُسري به وعُرج به، وكفى.
ولما جرى الحديث عن هذه الواقعة الكُبرى التي ذكرها الله ﷻ، وجاء فيما ذكره كلمة التسبيح ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى﴾. والتسبيح لا يكون إلا من شيءٍ عجيب. وأردت أن أسمع من أولئك الأبناء وأولئك الفتية شيئا من تفاصيل هذه القضية الكبرى. فلم أجد إلا ما يُحزِن من جهلهم بسيرة رسول الله ﷺ.
وإن الإنسان ليخشى أن تضيع تفاصيل الشريعة من صدور المسلمين، وإن كانوا يصلون ويصومون ويحجون.
ولهذا؛ أجِد أنه من اللازم أن أذكر لكم هذه الواقِعة في دقائق معدودة، على سبيل الإيجاز.
أُسري بالنبي ﷺ كما قال الله ﴿مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى﴾. وعُرج به من المسجد الأقصى إلى السماء. وقال بعض العلماء إن المعراج كان قبل الإسراء، فعُرج به أولا من مكة إلى السماء، ثم أسري به.
وأيا ما كان؛ فقد حصل هذا وحصل هذا.
جاء جبريل إلى رسول الله ﷺ في مكة. جاءه بدابة يقال لها البراق، وهي دون البغل وفوق الحمار. وسرعته قوية جدًا، بحيث إنه يضع حافِره عند منتهى طرفه. فما هي إلا دقائِق معدودة، حتى كان النبي ﷺ ببيت المقدس.
وهنالك قدَّم جبريل إلى النبي ﷺ إناءين. أحدهما من خمر، والأخر من اللبن. فاختار النبي ﷺ اللبن. فقال له جبريل: اخترت الفِطرة.
وصلى النبي ﷺ بالأنبياء في ذلك المكان.
ثم عُرج به إلى السماء، فاستفتح جبريل السماء الأولى ففُتحت له. فإذا بآدم -عليه السلام-. فسأل آدم: من هذا؟ فقال جبريل: محمد ﷺ. قال: أو قد بعث؟ قال: نعم. قال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح.
ثم عُرج به إلى السماء الثانية. فوجد فيها ابني الخالة، عيسى ويحيى. ورحبا به.
وفي الثالثة استفتح جبريل، ففُتحت السماء، فإذا فيها يوسف -عليه السلام-. ورحب بالنبي ﷺ. وقال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح.
وفي السماء الرابعة وجد إدريس، الذي قال الله ﷻ فيه في سورة مريم ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا | وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾. فهذه هي رِفعته؛ إذ كان في السماء الرابعة. وقال كما قال الأولون.
وفي السماء الخامسة وجد فيها هارون، وهو أخو موسى -عليهما السلام-.
وفي السادسة وجد موسى -عليه السلام-. ورحب بالنبي ﷺ، وقال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم رؤي موسى -عليه السلام- وهو حزين. فسأله جبريل: ما الذي أحزنك؟ قال: حزنت إن نبيا يأتي من بعدي وأمته أكثر من أمتي. وذلك أن كل نبي كان مشفقا على أمته ويحب أن تكون أمته هي الأولى.
وارتقى النبي ﷺ مع جبريل إلى السماء السابعة؛ فإذا فيها إبراهيم. وقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح. ووجده متكئا على البيت المعمور. ووجد ملائكة يطوفون حوله، في كل يوم يطوف حوله سبعون ألفا من الملائكة، لا يعودون؛ بل يأتي بعد سبعون ألفا آخرون.
وهكذا ارتقى بعد ذلك النبي ﷺ إلى سدرة المنتهى، ثم إلى ربه. وبلغ مكانا لم يبلغه أحد.
ولذلك يشير الشاعر أحمد شوقي إلى هذه المسألة في بردته، فيقول:
حَتّى بَلَغتَ سَماءً لا يُطارُ لَها — عَلى جَناحٍ وَلا يُسعى عَلى قَدَمِ
وَقيلَ كُلُّ نَبِيٍّ عِندَ رُتبَتِهِ — وَيا مُحَمَّدُ هَذا العَرشُ فَاِستَلِمِ
وناجاه الله ﷻ في ذلك المكان. واختلف العلماء؛ هل رأى النبي ﷺ ربه بعيني رأسه أم لم يره؟ والصحيح أنه لم يره.
وسئل النبي ﷺ عن ذلك؛ فقال «نور أنى أراه».
وفرض الله عليه خمسين صلاة. فأخذ النبي ﷺ هذا الأمر بامتثال وخضوع وطاعة. وفي نزوله؛ أراد الله ﷻ أن يُدرِك هذه الأمة برحمته. مَرّ النبي ﷺ بموسى فسأله عما فُرِض عليه. فقال «فُرِض عليّ خمسون صلاة». قال: إن أمتك لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربك واسأله التخفيف. فرجع إلى ربه فسأله التخفيف، فخفف الله ﷻ عنه خمسا. فرجع فمر بموسى فقال له كما قال له في المرة الأولى. فرجع إلى ربه، فخفف الله عنه خمسا. إلى أن أصبحت خمس صلوات.
قال الله ﷻ لنبينا -عليه الصلاة والسلام- ﴿هن خمسٌ بخمسين صلاة، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد﴾.
ولما رجع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى مكة، وتسامع كفار قريش بهذا النبأ، أخذوا يتضاحكون… أويسري محمد إلى المسجد الأقصى في ليلة واحدة ويعود، ونحن نضرب إليه أكباد الإبل! هكذا كانوا يقولون.
وجاءوا إلى أبي بكر يخبرونه بهذه الأضحوكة -في زعمهم-؛ فقال لهم: أوقد قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: فقد صدق، ولو أخبرني بأنه عرج به إلى السماء لصدقته.
ذلك هو الإيمان القوي واليقين الراسِخ الذي يتمكن من القلب.
ولما جاءوا إلى رسول الله ﷺ يسألونه عن هذا النبأ العجيب. أخذ النبي ﷺ يصِف لهم بيت المقدس. وقد كان فريقٌ منهم يعرفونه، ويعرفون أن رسول الله ﷺ ما كان يعرفه، فإنه لم يخرج من مكة إلى بيت المقدس من قبل.
فوصف لهم الرسول ﷺ بيت المقدس لأن الله ﷻ أراه إيّاه وقرّبه إليه أمامه، يراه ويصفه لهم؛ حتى إنه وصف لهم عيرا قادمة من الشام، ووصف لهم تلك العير بإبلها ومن معها. فعجبوا من ذلك. وكان أناس -كما قيل في الأخبار- قد ارتدوا من أجل هذا الخبر العجيب، فرجعوا بعد ذلك حينما علموا أن النبي ﷺ صادِقٌ وصدوق.
يا معشر الإخوة؛ لا نمر بهذه القضية هكذا، من غير أن نتأمل فيها ونأخذ منها العبرة ونخرج منها بالإيمان الراسخ بقدرة الله ﷻ، الذي يفعل ما يريد، والذي يقول للشيء كن فيكون. وليس هنالك عجب أمام قدرة الله ﷻ.
ولنا أيضا أن نأخذ من هذه القصة عِظم نبينا ﷺ ومكانته، ومنزلته عند ربه. وإنما كان لأمته فضلٌ ومكانة بسبب مكانة هذا النبي الكريم على مولاه ﷻ.
وفي هذه الآية التي جاءت في صدر سورة الإسراء وجاء بعدها بعد ذلك الكلام عن بني إسرائيل. فيها ما يُفهِم -كما قال بعض العلماء- أن هنالك مرحلة جديدة في الدنيا وفي الحياة وللإسلام، انقضت مرحلة بني إسرائيل، جاءت مرحلة جديدة؛ النبي فيها محمد ﷺ. والأمة فيها أمة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-.
نسأل الله ﷻ أن يُنبهنا من الغفلة وأن يوقظنا منها. وأن يزيدنا فهما وعلما واتباعا لسنة محمد ﷺ. وعِلما بسيرته وأيامه وسننه وأخلاقه.
هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، له إله الأولين والآخرين. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله؛ أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. صلى الله عليه وعلى آله السادة الغراب ما اتصلت عين بنظر وسمعت أذن بخبر.
يا معشر الإخوة؛ إذا جاء شهر شعبان أطلَّت تباشير شهر رمضان. وسرى إلى أنفسنا شعور بهذا الشَّهر الكريم. ولهذا؛ كان سلفنا الصَّالِح يستعدون في هذا الشَّهر لرمضان؛ لا أقول يستعدون فيه استعدادا ماديا، ولكنهم يستعدون لرمضان استعدادا روحيا وإيمانيا. يهيئون أنفسهم.
والنفس -كما تعلمون- تتخبَّط وتخبطت في تلك الأيام الماضية والشهور التي مضت. فيحتاج الإنسان إلى أن يُجدد روحه، وأن يجدد نفسه، وأن يجدد إيمانه. فإن النفوس تصدأ كما يصدأ الحديد. فيحتاج الإنسان إلى تجديد وإلى تهيئة.
وقد كان النبي ﷺ يُطبق هذا عمليا. فكان يصوم شهر شعبان إلا قليلا. يصومه كله -كما ثبت في الحديث الصحيح- إلا قليلا. وهذا من الاستعداد لذلك الشهر الكريم. حتى لا يُفاجأ الإنسان بهذه العِبادة، وحتى يألَف الصيام ويُحبه.
فهيئوا أنفسكم أيها الإخوة بقراءة القرآن، وبالصيام لمن كان يمكنه ذلك، وبالأعمال الصالحة. واسألوا الله ﷻ أن يبارك لكم في حياتكم وفي أعمالكم.
الدعاء
اللهم بارك لنا في شعبان وفي جميع الأزمان وبلغنا رمضان. وأعنا يا ربنا على الصيام وعلى القيام وعلى الطاعات وعلى ما يرضيك، يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِنا ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك يا رب العالمين.
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ولا تعذبنا فأنت علينا قادر، والطف بنا فيما جرت به المقادير إنك على كل شيء قدير.
اللهم أعِز الإسلام والمسلمين وأذِل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين.
اللهم انصر عبادك المستضعفين من المؤمنين في الأرض أجمعين يا رب العالمين.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم إنا نسألك أن تشفي مرضانا وأن ترحم موتانا وأن تصلح أحوالنا وقلوبنا وأولادنا وأزواجنا يا رب العالمين.
اللهم أصلح الراعي والرعيّة، ووفقهم يا مولانا إلى ما تحبه وترضاه يا رب العالمين.
اللهم اجعل هذه البلاد آمِنة مطمئنة غنية منصورة وسائر بلاد المسلمين.
اللهم نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.
ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.
أكثروا من الصلاة والسلام على رسول الله محمد، صلى الله عليه وآله وأصحابه أجمعين.
قدَّمنا لكم أعلاه خطبة مؤثرة عن الإسراء والمعراج… ألقاها فضيلة الدكتور عبدالعزيز الحربي؛ جزاه الله خيرا.
إذا نالت الخطبة استحسانكم وأردتموها بصيغة PDF فاطلبوها في التعليقات أدناه، وسنعمل على توفيرها لكم.