مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي يحقق الآمال، ويقدر الآجال، أحمده ﷻ بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه، وأستغفره من الذنوب جميعها وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، البشير النذير، ﷺ وعلى آله وصحبه أولي الجد والبذل والتشمير، وعلى كل من اهتدى بهداهم إلى يوم العرض على السميع البصير.
الخطبة الأولى
أما بعد، فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بالتقوى، فهي حبل الاعتصام بالله الأقوى، واعلموا أن الإنسان لولا أمل بين جنبيه في رحمة الله ﷻ وفضله وعطائه لانقطع عن العمل، ويئس من إتيان أي شيء ينفعه من منافع الدنيا والآخرة، وهذا الأمل هو الذي يعبر عنه ب “حسن الظن بالله ﷻ“، مثلما جاء في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني»، وأطلق عليه القرآن الكريم “روح الله” كما في قوله ﷻ: ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾، وسماه في موضع آخر “رحمة الله” كما في قوله ﷻ: ﴿قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ﴾.
أيها المسلمون: لقد ورد عن النبي ﷺ أنه خط في الأرض خطا مربعا ثم أخرج من وسطه خطا إلى الخارج، وخط من عن يمينه وشماله خطوطا صغارا، ثم قال: «هذا الإنسان وهذا أجله قد أحاط به -يقصد الخط المربع-، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطوط الصغار الأعراض، إن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا حتى يبلغه الأجل».
وخروج خط الأمل من مربع الأجل بيان لاتساع رغبات الإنسان وتشوفه إلى المستقبل، فإن كان الإنسان مؤمنا كانت نظرته المستقبلية أبعد، فهي لا تقف عند حدود الحياة الدنيا التي يحياها، بل تمتد لتتجاوز العالم المشاهد إلى العالم الغيبي فتسرح وتمرح في رياض الجنة ونعيمها الخالد، مما يحملها على التفكير في إتيان كل عمل صالح، وينشطها إلى المسابقة في الخيرات، طلبا لما أعده الله ﷻ للمتقين من جنات، أما إن كان الإنسان غير مؤمن فحدود أمله أقصر من ذلك بكثير حتى أن منهم من لا تتجاوز نظرته مساحة ظله، إذ لا تتعدى نظرة هؤلاء هذه الحياة القصيرة، وترتد حسرى عند الحدود الضيقة لهذا العالم المادي.
أيها المؤمنون: بقدر ما يكون العبد مؤملا عطاء الله ﷻ وإحسانه وفضله بقدر ما يجتهد في إحسان العمل، فمن جعل أمله في مجاوزة عتبة باب الجنة ارتقت همته فجاوزت منكب الجوزاء، فأملوا في ربكم أجمل الآمال وأشرفها بأن يهبكم خير الدنيا وحسن ثواب الآخرة، وهيئوا أنفسكم لذلك، وقولوا: يا مالك الدنيا والآخرة نسألك خير الدنيا والآخرة يا ذا الجلال والإكرام، بل رددوا ما علمكم الله ﷻ إياه من الدعاء الذي يحمل على أفضل الآمال وأحسنها: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، ويقول العزيز الغفار: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا﴾.
يا عبد الله: إذا أصابك شيء من المصائب، أو حل بك شيء من النوائب فتذكر أنك في دار يبتلي الله ﷻ فيها من يشاء من عباده، واتهم نفسك دائما بالقصور والتقصير؛ فأنت لست بمعصوم من الزلات والخطايا، يقول الله ﷻ: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾، فمن قبل نفسك أتيت إن لاقيت في هذه الحياة شيئا من الضر في نفسك أو أهلك أو ولدك، فإما ابتلاء يراد لك به رفع مقامك، وإما أمر يراد لك به التكفير والتطهير، يقول البشير النذير ﷺ: «ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا نصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر من خطاياه».
أيها المؤمنون: اجعلوا من أيام الرخاء سلما إلى مرضاة الله ﷻ بتقديم أنواع الطاعات والقربات، ومختلف الأذكار والأدعية والصلوات، حتى تجدوا ثمرة ذلك في أيام الشدة والبلاء، فإن الله ﷻ يقول: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾، وقد بين الله ﷻ أن مسابقة المؤمنين إلى إتيان الطاعات في وقت الرخاء لا تختلف عن وقت الشدة والبلاء ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء﴾، فسيان عندهم حالة العسر وحالة اليسر، فلا ينقطعون في أي منهما عن الضراعة إلى الله، وطلب ما عنده، ولما حث نبي الله ﷺ الناس على الإنفاق لتجهيز جيش العسرة جاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله وهو يظن أنه سيسبق أبا بكر رضي الله عنه ذلك اليوم ويزيد عليه في الفضل، فسأله رسول الله ﷺ: «ما أبقيت لأهلك؟» فقال: مثله، فإذا بأبي بكر رضي الله عنه يأتي بماله كله، ويضعه بين يدي رسول الله ﷺ، فيقول له النبي: «ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟» فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقال عمر: لا أسابقك إلى شيء أبدا.
فاتقوا الله -عباد الله -، وقدموا من الأعمال الصالحة ما يكون لكم زادا حسنا يوم تلقون الله ﷻ، وأملوا في الله ﷻ ما يسركم، ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
⇐ أيضًا؛ هنا خطبة ﴿إنما المؤمنون إخوة﴾ مكتوبة ومُنسَّقة + العناصر
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي يقول الحق وهو خير الفاصلين، أحمده ﷻ وأسأله أن يجعلنا من الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، الهادي إلى الحق المبين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين من بعدهم إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله: اغتنموا الشباب قبل الهرم، وأيام الصحة قبل حلول السقم، وفسحة العمر قبل حلول الأجل ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾، ألا كم من إنسان كان يؤمل الآمال العراض، والأحلام الطوال، فقطع حسام المنية تلكم الآمال، وتبخرت مع حلول الأجل تلكم الأحلام، فلذلك كان على الإنسان أن يعمل بمنطق الاستعداد، توبة صادقة، وأعمالا صالحة، وسعيا حثيثا نحو الخير، حتى يظفر بفوز الآخرة، يقول الله ﷻ: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾.
فاتق الله أيها المسلم، والزم طاعة الله، وصحح ما قد يقع منك من أخطاء بالتوبة الصادقة، وتجديد العهد مع الله ﷻ بالسير على صراطه المستقيم، حتى تستأنف حياتك بكل ثقة واطمئنان، مؤملا في رحمة الله ﷻ ونيل الغفران، وإياك والاغترار بالأماني الفارغة، واجعل من أملك في الله ﷻ سلما إلى فعل كل عمل صالح يؤدي إلى نيل منافع الدنيا والآخرة.
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.