عناصر الخطبة
- الأمانة صفة مرتبطة بالإيمان وهي مفتاح النجاح للأفراد والمجتمعات، ومطلب شرعي ينبغي العناية بتحصيله.
- الأمانة هي التي تحصن القوة بالخير، وتوجهها إلى صالح العمل وهي التي تحدد مجالات استخدامها وكيفياته.
- الأمانة من الصفات الواجب توافرها في كل مسلم لأنها صمام الأمان الذي يحول دون وقوع التقصير والخلل في جميع مناحي الحياة.
- التقصير في أداء الأمانة هو تقصير في أداء حق الله ﷻ أولاً، وتقصير في أداء حق الناس الذين أمرنا الله ﷻ أن نؤدي الأمانة إليهم.
الخطبة الأولى
الأمانة بمفهومها الشامل ارتبطت برسالة الإنسان ووجوده، حين تمثلت بمفهوم الاستخلاف الذي أُسند إلى الإنسان على هذه الأرض، فقال ﷻ: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ الأحزاب: 72.
والأمانة في القول والعمل من أعظم الصفات التي اعتنى بها الإسلام وأعلى من شأنها وهي الصفة التي لازمت نبينا ﷺ حتى اشتُهر بها بين الناس قبل البعثة فكان يُلقب بـ (الصادق الأمين) فالأمانة صفة تعطي صاحبها المهابة والاحترام وتجعله محط ثقة الناس وتقديرها، فكانت له ﷺ الوجاهة والصدارة في المجالس ومكان ثقة الناس في حل مشكلاتهم وحين أرادت قريش أن تبني الكعبة من جديد، ووصلوا إلى موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يضعه في مكانه، وتفرقت القلوب، وأوشكت أن تقع بينهم العداوة والبغضاء، حتى ظهر نبينا ﷺ، ففرح الناس واستبشروا، واجتمعت كلمتهم، وتوحّد رأيهم، وهدأت ثائرتهم، مهللين برؤيته ﷺ، هاتفين « هَذَا الْأَمِينُ، يَا مُحَمَّدُ، قَدْ رَضِينَا بِكَ» ← المستدرك على الصحيحين.
فقد تجلت في نبينا ﷺ في هذا الموضع صفة الأمانة التي وحدت المجتمع وحفظت أمنه واستقراره، فانتشار الأمانة أحد أهم الأسباب لتحقيق الأمن والأمان ورخاء المجتمع واستقراره.
وعلاوة على أن الأمانة مرتبطة بالأمان، فهي كذلك مرتبطة بالإيمان، وصفة الأمانة مشتقة من الإيمان ملازمة له وقد حث عليها الشرع ورغب بها وجعلها أساساً لوجود الإيمان، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ: «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له» ← صحيح ابن حبان.
فالأمانة أصل السلوك القويم والفطرة السليمة، والمتأمل في آيات القرآن الكريم يجد بأنها أسمى الصفات التي وصف الله ﷻ بها ملائكته المقربين، فوصف الله ﷻ جبريل –عليه السلام– بجملة من الأوصاف، من بينها وصفه بالأمانة: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ التكوير: 19 – 21، فجبريل –عليه السلام– أمين عند الله على وحيه ورسالته وغير ذلك مما ائتمنه الله عليه.
والأمانة تعدّ شرطاً أساسياً في كل من يراد أن يسند إليه عمل وتكليف بعد العلم والمعرفة، وقد قرن الله ﷻ بين القوة والأمانة في القرآن الكريم في أكثر من موضع لأنهما صفتان متلازمتان وضروريتان في كل أمر، فقد جاء على لسان إحدى ابنتي صاحب مدين في تزكيتها لنبي الله موسى لتولي وظيفة الرعاية قولها: ﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ القصص: 26، فأستأجره ليرعى ويسقي غنمه فكان خير أجير.
وقد جاء في قصة سليمان –عليه السلام–، وهو يعرض على من كان عنده أمر إحضار عرش بلقيس ملكة سبأ قال: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾ النمل: 38–39.
ومن ذلك قول يوسف –عليه السلام– للملك: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ يوسف: 55، أي: أمين احفظ ما استودعتني عالم بما وليتني وصفاً لنفسه بالأمانة والكفاية؛ فسيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام طلب الولاية لما عرف من نفسه الكفاءة والأمانة.
ولنعلم أن هذه الأمانة سنُسأل عنها أمام الله عز وجل، وليس أحد إلا وهو مسؤول من الله عما استرعاه الله به لقول النبي ﷺ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» ← متفق عليه.
فالموظف راع في شأن وظيفته وهو مسؤول عن أداء واجباتها، والجندي راع فيما كلف به من عمل وهو مسؤول عنه، والطالب راع فيما فرغ له من طلب العلم وهو مسؤول عنه، والمرأة راعية في إدارة بيتها وتربية أولادها وهي مسؤولة عن ذلك، وهكذا فإن كل مسلم في أي موقع من المواقع ينبغي أن يجتهد في سدّ الثغرة التي هو قائم عليها، ومعرفة الولاية التي كلف بها وأن يجتهد في التحلي بما تقتضيه من صفة الأمانة، قال ﷻ: (وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) التوبة: 105.
عباد الله: كما أن أداء الأمانة والمحافظة عليها سبب في أمن المجتمع وتماسكه فكذلك ضياع الأمانة سبب في تفكك أركان المجتمع وضياع الحقوق وأكل أموال الناس بالباطل، وتعطل للمصالح، والعجز عن قيام كل مرء بمسؤولياته وهذا مما حذر منه النبي فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله للذي سأله متى الساعة: «فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» ← صحيح البخاري.
فإسناد الأمور إلى غير أهلها ضياع للأمانة، والإنسان لا يكون أهلا ليقوم بعمله وبما أسند إليه إلا إذا كان أمينا، ولنا في موقف النبي ﷺ من أبي ذر رضي الله عنه أكبر المثل على أهمية الأمانة فحين طلب أبو ذر الإمارة قال له النبي ﷺ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» ← صحيح مسلم.
فالمقياس الإسلامي في اختيار من يتولى أمرا من أمور المسلمين مهما كان هذا الأمر أن يتمتع بصفتين أساسيتين القوة والأمانة، والقوة ليست هي القوة العضلية بل هي المعرفة والإحاطة في التخصص والقدرة على أداء العمل على أكمل وجه، والأمانة هي التي تحصن القوة بالخير، وتوجهها إلى صالح العمل، فالأمانة قيد على القوة، فهي التي تحدد مجالات استخدامها ومناطها.
والأمانة إحساس بالمسئولية ويقظة للضمير، لأن الأمانة في حقيقتها هي حفظ كل ما استحفظ عليه الإنسان من حقوق سواء كانت لله ﷻ أو لعباده، لذلك قال النبي ﷺ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» ← سنن أبي داود.
قال نافع خرجت مع ابن عمر رضي الله عنهما في بعض نواحي المدينة فوضعوا سُفرة فمر به راعٍ فقال له عبد الله: هلم يا راع، فقال: إني صائم، قال: في مثل هذا اليوم الشديد حره في هذه الشعاب؟، قال: أبادر أيامي، قال: هل لك أن تبيعنا شاة ونعطيك من لحمها ما تفطر عليه؟، قال: إنها لمولاي، قال: فما عسيت أن تقول لمولاك أكلها الذئب؟، فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء يقول: أين الله… فأين الله..
وفي زماننا لا بد _ ليكمل إيماننا_ أن نستشعر مراقبة الله ﷻ لنا كلٌّ في موقعه، وأن أي تقصير في أداء الأمانة هو تقصير في أداء حق الله ﷻ أولاً، وتقصير في أداء حق الناس الذين أمرنا الله ﷻ أن نؤدي الأمانة إليهم ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ النساء: 58، وقال ﷻ في صفات المؤمنين: ﴿والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون﴾ المؤمنون: 8، فلا تستقيم شؤون الحياة ولا تبنى الأوطان إلا بأداء الأمانة.
ومن الأمانة كذلك حُسن الانتفاع بوقته واستغلاله بما فيه نفع وفائدة، فقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلى ولم يزد فيه عملي”.
ولقد أوجب الإسلام على الفرد المسلم الالتزام بأداء العمل وإتقانه وربط ذلك باستحقاق الأجرة فالإخلال بالأمانة يُدخل الشبهة على الكسب، فمن أخذ الأجرة حاسبه الله على العمل.
كما حذّرنا الله ﷻ من خيانة الأمانة وعدم أدائها حق الأداء والتقاعس عن أداء الواجب يقول ﷻ: ﴿ياأيها الذين أمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون﴾ الأنفال: 27.
⬛️ مُقترح: خطبة عن الأمانة «مكتوبة، كاملة جاهزة» ومُعَزَّزة بالآيات والأحاديث
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر وأفضل الصلاة وأتم التسليم على المبعوث رحمة للبشر سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
عباد الله اتقوا الله ﷻ واعلموا أن حمل الأمانة أمر عظيم واعلموا عباد الله أن الظالم لنفسه هو من لم يف بهذه الأمانة ولم يراع حقها لجهله بشدة عاقبتها وأما الذي يؤديها فإنه فائز منجٍ لنفسه، فالواجب على كل مسلم أن يراعيها ويعلم أن ديننا دين أمانة فيحرص كل الحرص على تحققها في شخصه فهي من الصفات التي يحبها الله ورسوله.
وقد أرسى الإسلام أهم نوع من أنواع الرقابة والتي تختبر أمانة الإنسان وقوته في أداء هذه الأمانة وهي الرقابة الذاتية، التي تعتمد على يقظة الضمير وصحوته وربط ذلك الضمير الحي بخالقه في السر والعلن حيث ورد في الحديث المتفق عليه أن النبي حينما سئل عن الإحسان قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ← متفق عليه.
وهذا النوع من الرقابة الوقائية التي تحول دون وقوع الخلل والانحراف هي أسمى وأمثل نوع من أنواع الرقابة وهي صمام الأمان الذي يحول دون وقوع التقصير والخلل في جميع مناحي الحياة.
فالأمة الإسلامية أمة قوة وأمانة ولا مجال للضعف والعجز والخيانة فيها.
والحمد لله رب العالمين..
⬛️ وهنا أيضًا: خطبة جمعة قصيرة جدا وسهلة مكتوبة عن خُلُق الأمانة