مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي أمر بالألفة والمحبة والوئام، ودعا إلى التآلف والسلام، ووجه إلى بناء مجتمع يقوم على الوحدة ونبذ الخلاف، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المؤلف بين قلوب المؤمنين بفضله ورحمته، وهو العليم الحكيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي جمع كلمة المسلمين على الحق والدين، ﷺ وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله -عباد الله-، فالتقوى هي مفتاح السعادة في الدنيا والآخرة، كما قال الله ﷻ: (وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ).
الخطبة الأولى
واعلموا -رحمكم الله- أن من أول ما حرص عليه نبينا محمد ﷺ في بناء المجتمع المدني ترسيخ أواصر الترابط بين أفراده، انطلاقا من قول الله ﷻ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ).
هذا الترابط بني على أساس المحبة في الله، ونبذ الخلافات بين المسلمين، فجمعهم الله في أمة واحدة، موحدة في دينها وقبلتها وإيمانها بربها، وتصديقها لنبيها ﷺ، مصداقا لقوله ﷻ: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ).
فالمسلمون، رغم اختلاف بلدانهم وألوانهم وأنسابهم وأفكارهم، مدعوون إلى الاعتصام بحبل الله المتين، واتباع صراطه المستقيم، وترك الخلافات عند اختلاف الآراء؛ لأن الاختلاف طبيعة بشرية، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)، ولذا يقول سبحانه آمرا عباده المؤمنين بالائتلاف والاعتصام به، مذكرا إياهم بنعمته عليهم فقال ﷻ: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
أيها المؤمنون: إن الألفة الإيمانية جوهر العلاقة التي بناها الإسلام بين المسلمين، فهي ليست مجرد رابطة عابرة، بل نسيج متكامل من المحبة الصادقة والتآزر الأخوي، نابع من إيمان قلوبهم بالله، يجعل المسلم يشعر بأخيه كما يشعر الجسد الواحد بأعضائه، فإذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
فاتقوا الله -عباد الله-، وكونوا على قلب واحد، متماسكين بالألفة الإيمانية التي تحفظ للأمة عزتها واستقرارها، وتجعلها قادرة على مواجهة التحديات، فإن التمسك بهذا المبدأ هو سبيل تحقيق مقاصد الشريعة ورفعة الأمة الإسلامية.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
هذه أيضًا ⇐ خطبة عن الاعتدال.. في كل شيء
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينا، ومحمدا نبيا ورسولا، والقرآن منهجا قويما وكتابا مبينا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الصادق الأمين، وسيد الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون: إن أهمية الألفة الإيمانية لا تقتصر على تقوية الروابط بين الأفراد، بل تمتد لتشمل بناء مجتمع متماسك مترابط، ينأى عن الفرقة والضعف، ويرسخ في أفراده قيم التعاون والتكافل. إنها الدعامة الأساسية في الحفاظ على وحدة الصف، والركيزة التي تعزز تلاحم المسلمين مهما تباعدت ديارهم أو اختلفت ألسنتهم وألوانهم، فالإيمان هو الحبل الذي يجمعهم، والقرآن هو الدستور الذي يوحدهم، كما قال الله ﷻ: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
نعم -يا عباد الله-، إنها منة إلهية تتجلى فيها روح التمسك بحبل الله المتين، وهي بالمقابل تأكيد لنبذ الشقاق والخلاف، ذلك أن الألفة الإيمانية سلوك عملي يتجسد في التعاون والتآزر، وفي الإحسان والتسامح، إنه العمل الذي يعزز قيم الرحمة بين أفراد المجتمع، ويشجع على التعاون في كل ما يحقق الخير والصلاح، يقول الله ﷻ في كتابه العزيز: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)، فالألفة الإيمانية دعوة دائمة إلى بناء مجتمع يسوده الحب والوداد، ويبتعد عن الضغائن والأحقاد، مجتمع يعلي قيمة التآخي في الله، ويحرص على وحدة الصف ونبذ الفرقة، والتآزر لصناعة المعروف وأعمال الخير والبر.
فاتقوا الله -عباد الله-، وحافظوا على مقدرات مجتمعاتكم وأوطانكم، ورصوا صفوفكم فيما يحقق لكم الأمن والأمان، والسلام والاستقرار.
هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين؛ محمد الهادي الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.