الخطبة الأولى
الحمد لله..
عباد الله: إنّ من عقيدة المؤمن الراسخة أن يُحسنَ العبد ظنّه بالله ﷻ، وأن يتوكلَ عليه ﷻ في كل حال من أحواله. ذلكم لأنه ما من شدة إلا ويعقبها الفرج، وما من همّ أو غمّ إلا وينقشع وينكشف، وتحل محله المسرة، وما من عسر إلا ويأتي بعده اليسر. يقول الله ﷻ: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ سورة الشرح:5،6.
فإذا توكل المؤمن على خالقه، وأدى ما أمره الله به، وابتعد عما نهى عنه، تحولت حاله من شدة الى رخاء، ومن ضيق الى سعة، ومن فقر إلى غنى. لذلك فإنَّ المؤمن الصادق، هو الذي لا يضيق صدره من عسر يلحقه، لأن العسر لا يستمر ولا يدوم، ولن يغلب عسر واحد يسرين.
قال ﷺ: (ولنْ يغلبَ عسرٌ يُسرين) أخرجه الحاكم. فلا عجب أن المؤمن لا يقنط، ولا يكون نظره مقصوراً على الأسباب الظاهرة.
كتب أمين الأمة أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يذكر له جموعًا من الروم، وما يُتَخَوّف منهم، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: (أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من مَنزِل شدّة، يجعل اللَّه بعده فرجًا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن اللَّه ﷻ يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران: 200).
وعن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: (إنَّ المعونةَ تأتي العبدَ من اللهِ على قدرِ المَؤونةِ وإنَّ الصبرَ يأتي العبدَ على قدرِ المصيبةِ) أخرجه البزار والبيهقي. ” المعونة”، أي: الإعانة بجميع صورها؛ من مال وغيره، أي: ينزلها الله ﷻ على العبد “على قدر المؤونة”، والمؤونة هي القوت الذي يحتاج إليه، وقيل: هي الشدة والتعب.
واعلموا عباد الله: أن النصر مع الصبر، ومنْ صبرَ ظفر، والنصر ثمرة الصبر. قال ﷺ: (وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ…) رواه أحمد.
فعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: (شَكَوْنا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا ألا تَدْعُو لَنا؟ فقالَ: قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ). أخرجه البخاري.
وعن تميم الداري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (ليبلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ اللَّيلُ والنَّهارُ، ولا يترُكُ اللَّهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا أدخله اللَّهُ هذا الدِّينَ، بعِزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ به الإسلامَ، وذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ به الكُفرَ) أخرجه احمد.
ومما يُروى عن الشافعي رحمه الله ﷻ أنه قال:
صبرًا جميلًا ما أقْرَبَ الفَرجا
من راقَبَ اللَّه في الأمور نجَا
مَن صـدّق اللَّه لـم ينلْـه أذى
ومَنْ رَجَاه يكونُ حَيْثُ رجَا
هذا، ويُكرهُ للمسلمِ أن يتمنى الموتَ لضُرٍّ نزلَ به من مرضٍ أو ضيقِ دنيا أو غيرِ ذلك. عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: (لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي) أخرجه البخاري، وعند انسدادِ الفُرَجِ تبدو مطالعُ الفَرَجِ. يقول الله ﷻ: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ﴾ سورة الطلاق: 4. ويقول الله ﷻ: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ سورة الطَّلاق:7.
يقول الشاعر:
وَلَــــــــرُبَّ نازِلَةٍ يَضيقُ لَهـــا الفَــتى
ذَرعاً وَعِندَ اللَهِ مِنها المَخرَجُ
ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَــت حَلَقاتُــها
فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله ﷻ: “إن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى، وحصل للعبد اليأس من كشفه من جهة المخلوقين، وتعلق قلبه بالله وحده. وهذا هو حقيقة التوكل على الله، وهو من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج ـ فإن الله يكفي من توكل عليه. كما قال ﷻ: ﴿ومن يتوكل على الله فهو حسبه﴾ سورة الطلاق:3.”
فعلينا بالافتقار إلى الله ﷻ والتوكل عليه حق التوكل فإذا حققنا ذلك في الظاهر والباطن فرج الله ﷻ عنّا كروبنا وكشف غمومنا، فإن صحابة رسول الله ﷺ قد حققوا ذلك في حياتهم فأضحوا قادة الدنيا لصبرهم وتوكلهم على ربهم سبحانه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين.
وهذه ⇐ خطبة الجمعة عن أحوال الفرج والشدة «مكتوبة»
الخطبة الثانية
الحمد لله..
أيها المؤمنون، إن وعد الله باليسر بعد العسر ليس مجرد كلام، بل هو وعد صادق من رب العالمين. ولكن هذا الوعد لا يأتي من فراغ، بل يتطلب منا الصبر والعمل الجاد. فلنجعل من الصبر زادنا، ومن العمل سلاحنا في مواجهة تحديات الحياة. ولنتذكر أن الله ﷻ يرفع درجات الصابرين، ويكتب لهم الأجر العظيم. فلتكن حياتنا شاهدة على صبرنا وعملنا الصالح، حتى ننال رضوان الله ﷻ في الدنيا والآخرة.
أيها الأحبة، قد نمر بظروف صعبة ومحن شديدة، ولكن علينا أن نثق بأن الله ﷻ سيخرجنا من هذه الظلمات إلى النور. فالتفاؤل بالمستقبل هو سمة المؤمن القوي، وهو وقود يساعده على مواجهة التحديات. ولنتذكر أن كل صعوبة تحمل في طياتها فرصة للنمو والتطور. فلتكن قلوبنا مليئة بالأمل والتفاؤل، ولنعمل جاهدين لبناء مستقبل أفضل لأنفسنا ولأجيالنا القادمة.
والحمد لله رب العالمين..