«إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به». هل تتذكَّرون هذه العبارة العظيمة من الحديث الشريف من رسول الله ﷺ الذي ينل لنا الحديث القُدسي عن رَبّ العزَّة ﷻ في فضل الصيام. فما رأيكم أن تكون خطبة الجمعة لهذا الأسبوع بهذا العنوان؟!
نعم. هذه خطبتنا التي نوفرها لكم لتكون أحد المقترحات لأوَّل جمعة في شهر رمضان المبارَك.
مقدمة الخطبة
الحمد لله الكريم المتعال؛ فرض الصيام وشرع القيام، وأنزل القرآن في رمضان، وأمر بالإطعام والإحسان، ونهى عن الزور والجهل والبهتان؛ فإنها تذهب بأجر الصيام، وتورد أصحابها موارد الخسران.
نحمده سبحانه حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار التائبين، ونسأله من فضله العظيم؛ فهو الجواد الكريم، البر الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ جعل القرآن هداية للمؤمنين، وأنسا للمتهجدين، وحجة على العالمين.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان يعرض القرآن على جبريل في كل سنة مرة، فعرضه في آخر سنة من عمره مرتين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
الخطبة الأولى
كتب اللهُ ﷻ على عباده صيام شهر رمضان في شهر القرآن، شهر الهداية والعرفان لما في الصيام من حِكمٍ عظيمة، منها ما نعلمه وأكثرها لا نعلمه، فالصيام وسيلة لتحقيق التقوى، والتقوى هي فعل ما أمر الله ﷻ به، وترك ما نهى الله عنه.
لقد خاطب اللهُ عز وجل عباده عندما شرع لهم عبادة الصيام، بقوله ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ البقرة: 183، وهذا تكريمٌ من الله لعباده، قال ابن مسعود رضي الله عنه:” اذا سمعت الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأرعها سمعك، فإنه خيرٌ يأمر به أو شرٌّ ينهى عنهُ”، وقال علماؤنا: إن الله إذا قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، فإن فيه تكريماً للمؤمنين أن الله رب العالمين يخاطبهم ويرفع مكانتهم بهذا النداء.
فهنيئاً لنا معاشر المؤمنين أن يُخاطبَنَا ربُنا الكريم ﷻ، ونحنُ في أول جمعة من شهر رمضان المبارك، لتحقيق التقوى التي جعلها الله ﷻ الغاية من عبادة الصيام، وهي أفضل ما يتسلح به الإنسان المسلم لينال صفة المتقين، لذلك جعل الله ﷻ شهر رمضان شهر التقوى، قال الإمام علي كرم الله وجهه: (التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل).
ومن الأسرار العظيمة في الصوم أن المسلم يترك طعامه وشرابه وسائر شهواته المباحة التي جبلت عليها النفس البشرية إرضاءً لله ﷻ سراً وعلانيةً، ولا يوجد ذلك في عبادة غير الصيام.
رمضان أقبل يا أولي الألباب
فاستقْبلوه بعد طول غيابعام مضى من عمْرنا في غفْلة
فتنبهوا فالعمر ظل سحابوتهيؤوا وتصبروا لمشقة
فأجور من صبروا بغير حسابالله يجزي الصابرين لأنهم
منْ أجله سخروا بكل صعابلا يدخل الريان إلا صائم
أكْرمْ بباب الصْوم في الأبواب
ومما لا ريب فيه أن الصوم مدرسة إيمانية خُلقية وتربوية، يتدرب فيها الصائم على ضبط نفسه وكبح جماحها، والإقبال على أعمال الخير والطاعة، فيتخرجُ فيها المسلم، وقد زكّى نفسه، وجددّ ايمانه، وسلك الطريق المستقيم والمنهج القويم يبتغي الأجر والمثوبة من الله ﷻ، ويحرص كل الحرص على عبادته، كما أن هذه العبادة لعظمها تضاعف فيها الأجور، ولذا نسبها ربنا ﷻ لنفسه فقال في الحديث القدسي: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إلى سَبْع مِائَة ضِعْفٍ، قالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إلَّا الصَّوْمَ؛ فإنَّه لي، وَأَنَا أَجْزِي به، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِن أَجْلِي. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ. وَلَخُلُوفُ فيه أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِن رِيحِ المِسْكِ» رواه مسلم.
فهذه إضافة تشريفٍ وتعظيمٍ، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله ﷻ في شرح هذا الحديث: “إن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره”، وقال الإمام القرطبي رحمه الله ﷻ: “لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يطلعُ عليه احدٌ الا الله، أضافه الله الى نفسه، وقال في نهاية الحديث: (يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِن أَجْلِي)، وقال: “أن الاعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس، وأنها تضاعف من عشرة الى سبعمائة ضعف الى ما شاء الله، إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير، ويشهد لهذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «مَن همَّ بحسنةٍ فلم يعمَلْها كتَبْتُ له حسنةً فإنْ عمِلها كتَبْتُها بعشرِ أمثالِها إلى سبعِمئةٍ وإنْ همَّ بسيِّئةٍ فلم يعمَلْها لم أكتُبْ عليه فإنْ عمِلها كتَبْتُها عليه سيِّئةً واحدة» رواه ابن حبان.
وهذا الشهر شهر صلة الأرحام والأقارب وزيارتهم، قال الله ﷻ: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ النساء:1، فإن الرحمَ معلقةٌ بالعرش، من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله، ففي الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح البخاري قال: قال ﷺ: «لمّا خَلَقَ اللهُ الخلقَ، فلمَّا فرغَ منه، قامت الرَّحِمُ فأخذت بحَقْو الرَّحمن، فقال له: مَه، قالت: هذا مقامُ العائذِ بك من القَطِيعة، قال: ألَا تَرْضَيْنَ أنْ أصِلَ مَن وصلكِ، وأقطعُ مَن قطعكِ، قالت: بلى يا ربِّ، قال: فذاك»، قال رسول الله ﷺ: اقرءوا إن شئتم، ﴿فهل عسيتُم إنْ تولَّيتُم أن تُفْسِدوا في الأرض وتُقَطِّعوا أرحامَكم﴾ سورة محمد: 22
إنَّ صلةَ الرحم بركة في الرزق وبركة في العمر، قال رسول الله ﷺ: «مَن سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، أوْ يُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» رواه مسلم.
وهذه فرصة يجب أن نغتنمها في شهر رمضان، لأن الأجور مضاعفة فكيف إذا كانت متعلقة بالأرحام، قال النبي ﷺ: «الصدقةُ على المسكينِ صدقةٌ وعلى ذي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ صدقةٌ وصِلَةٌ» رواه الترمذي.
وتظل صلةُ الأرحام واجبةً حتى وإن قاطعوك ولم يصلوك، فالأفضل أن تستمر علاقاتك الأُسرية، لتبقى لحمة المودة والمحبة مستمرة، وإن لك بذلك أجراً عظيماً عند الله ﷻ، ورد في الحديث الصحيح أنَّ رَجُلًا قالَ: «يا رَسُولَ اللهِ، إنَّ لي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إليهِم وَيُسِيؤُونَ إلَيَّ، وَأَحْلُمُ عنْهمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقالَ: لَئِنْ كُنْتَ كما قُلْتَ، فَكَأنَّما تُسِفُّهُمُ المَلَّ وَلَا يَزَالُ معكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عليهم ما دُمْتَ علَى ذلكَ» رواه مسلم.
وهذه الصلة مطلوبة وإن بعدت المسافات والحواجز فوسائل التواصل الاجتماعي جعلت العالم كقرية صغيرة، فلا تبخل برسالة أو مكالمة مع أقاربك وأرحامك وأهل بيتك، فهذه مما تُدخلُ السرور على قلوبهم، وتقويّ الروابط العائلية، والعلاقات الاجتماعية، قال رسول الله ﷺ «كلُّ معروفٍ صدقةٌ وإنَّ منَ المعروفِ أن تلقَى أخاكَ بوجْهٍ طَلقٍ وأن تُفرِغَ مِن دلْوِكَ في إناءِ أخيكَ» رواه الترمذي.
وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ﷺ قال: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها»، رواه البخاري.
إن الصائم الذي يمسك عن طعامه وشرابه وشهواته المباحة، قادرٌ على أن يمنع نفسه من المعاصي والمحرمات والأخلاق السيئة، لتحقيق الثمرة من الصيام، وهي ثمرة التقوى (لعلكم تتقون).
إن الفرصة لتغيير السلوك سهلة على الصائم القائم في شهر رمضان، شهر القرآن لنصبح مصاحف حيّة تمشي على الأرض كحال الصحابة رضي الله عنهم، قال الله ﷻ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ الرعد:11، فلنطرح حظ النفس جانباً، ونقبل على الفضائل المحمودة، ونهجر الصفات المذمومة فلا غيبة ولا نميمة، ولا تشاحن ولا تباغض، ولا حسد ولا حقد ولا غل، لتصبح قلوبنا مطمئنة بذكر الله ﷻ قال رسول الله ﷺ:«أفضلُ النَّاسِ كلُّ مخمومِ القلبِ، صدوق اللِّسانِ، قالوا: صدوقُ اللِّسانِ نعرِفُه فما مخمومُ القلبِ؟ قال التَّقيُّ النَّقيُّ، لا إثمَ فيه، و لا بغْيَ، و لا غِلَّ، و لا حسَد» رواه ابن ماجه.
يا مديمَ الصوم في الشهر الكريم
صوم عن الغيبة يوماً والنميموصلّ صلاة من يرجو ويخشى
وقبل الصوم صم عن كل فحشا
وهذا مما يؤدي الى صفاء القلوب ونقائها ؛ ليلقى المسلم ربه ﷻ بقلب سليم قال ﷻ ﴿إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ الشعراء: 89.
ولا ننسى أن نحافظ على الصلوات المفروضة وصلاة التراويح مع الإمام امتثالاً لقول النبي ﷺ «مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ» رواه الشيخان. لنجمع بين القيام والصيام الذي ورد فيه (منْ صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
وهنا: خطبة الجمعة «قصيرة وسهلة» في استقبال شهر رمضان
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران:102.
عباد الله: لا تنسوا قول النبي ﷺ: من قال: “سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة، حُطَّتْ خطاياه وإن كانت مثل زَبَد البحر”، ومن قال: ” لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكُتِبَتْ له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي”، ومن قال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ﴾، “أيما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في مرضه ذلك أعطي أجر شهيد، وإن برأ برأ وقد غفر له جميع ذنوبه”.
والحمد لله ربّ العالمين..
وهنا أيضًا –يا إمامنا– خطبة: كيف نستقبل شهر رمضان – مكتوبة