وإلى هذا الموضوع الهام –مجددًا– والذي سنتناوله اليوم في تحضيرنا لخطبة الجمعة هذه؛ وهو إكرام الجار وحقوق الجيران. فهي بحَق مادة وعظية وعلمية وفقهية قوية ورائِعة. ندعوكم لأن تنهلوا منها ما ترغبون، أو تقتنصوها كاملة؛ فلا يخفى عليكم ما آلت إليه الأمور بين الجيران المسلمين مع بعضهم البعض.
مقدمة الخطبة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.
﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً﴾.
أما بعد.. فإن أصدق الحديث كتاب اللہ ﷻ، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها المؤمنون.. ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ﴾ — [التوبة]، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ — [البقرة]، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ — [المائدة].
الخطبة الأولى
عباد الرحمن… إن من حق الله ﷻ أن يعبد فلا يشرك به شيئا، فالعبادة حق الله وحده والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه فهي تأله القلب لله بامتثال خطاب الشّرع، فلا يدعى إلا الله، ولا يتوكل إلا على الله ولا يذبح الا لله…
وقد قرن الله ﷻ حقوقا لبعض الخلق مع حقه؛ لأن لهم مقاما يجب أن يحفظ، وحقوقا يجب أن تبذل؛ فقال: ﴿وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا﴾ — [النساء ٣٦].
فمن جملة هؤلاء الجار، قال: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ وهو الجار الذي له قرابة.
وقال: ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ وهو الجار الذي ليس له قرابة.
فالجار له حقوق يجب أن تحفظ وتبذل، فقد قرن اللہ ﷻ حقه بحقه.
وقد تكلم أهل العلم في بيان من هو الجار على أقوال: أصحها أن الجار يحده العرف، فالجار في المدينة ليس كالجار في القرية، ليس كالجار في البادية، ربما في البادية يبعد عنك كيلو متر ويعتبر جارًا، بينما في المدينة لا.
إكرام الجار
وإكرام الجار من جملة خصال الإيمان الواجبة، فيجب على العبد أن يكرم جاره؛ لأن إيمانه لا يكمل إلا بذلك، ومن آذى جاره فهو ناقص الإيمان.
فعن أبي شريح العدوي رضي الله عنه وغيره كما في الصحيحين، قال: سمعت أذناي وأبصرت عيناي، حين تكلم النبي ﷺ فقال«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره». وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي ﷺ قال:«ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه».
وهذا الظن الذي ظنه النبي ﷺ إنما يستفاد منه تعظيم حق الجار، أما إدخال الجار في الوارثين لمجرد الجوار، فهذا لم يقل به أحد من أهل العلم.
وحذر النبي ﷺ من إيذاء الجار، فقال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «الجار لا يأمن جاره بوائقه» قالوا: يا رسول الله؛ وما بوائقه ؟ قال: «شره».
فالبوائق: هي الشرور والمعاصي العظيمة التي لا يؤمن به جناب الجار أن يوصل بسببها الضرر إلى جاره.
وإيذاء الجار مرده إلى العرف؛ فإذا كان إرسال الماء قبل بابه أو وضع شيء لا يحب أن يوضع أمام بابه من جملة الأذى في عرف الناس، فإن الإنسان يحرم عليه أذيته بمثل هذا؛ لأنه مما يدخل في جملة النهي المذكور «فلا يؤذ جاره».
وإكرام الجار يكون بالعديد من الصور؛ منها: إعارته ما يحتاجه من بعض الأمتعة، وقد ذم الله ﷻ من يمنع جاره من ذلك، فقال ﷻ: ﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾.
وقال النبي ﷺ فيما أخرجه البخاري في «صحيحه»: «الجار أحق بصقبه»، أي أن الجار أحق بجاره من غيره؛ بسبب حق الجوار.
ومن إكرام الجار تعاهده بالهدية: أخرج مسلم في «صحيحه»، عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة، فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك».
وعن أبي هريرة، كما في «الصحيحين» أن رسول اللہ ﷺ كان يقول: «يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة» أي: ولو تهديها رجل شاة.
وإنما ذكر النبي ﷺ المرقة دون ما فوقها من سائر الطعام؛ لأنها كانت الممكنة في زمانهم، وإذا وسّع على الناس من الأرزاق صار الحقيق بالإحسان إلى الجار أن يترقى الإنسان في إطعامه فإذا صنع الإنسان مرقا ولحما كثيرا، كان الإحسان إليه باللحم أفضل من الإحسان إليه بالمرق وإنما أمرهم النبي ﷺ بتكثير المرقة لقلة اللحم حينئذ، فإذا كثر المرقة كثر من يصيب من هذا الطعام من جيرانه.
وليحذر النساء خاصة، والرجال أيضا من غيبة الجيران، فهي تُحبط العمل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رجل: يا رسول الله؛ إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها؟ قال: «هي في النّار» قال: يا رسول الله، فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإنها تتصدق بالأثوار من الأقط، ولا تؤذي جيرانها بلسانها؟ قال: «هي في الجنة».
وهذا دال على أن أذية الجار من جملة كبائر الذنوب؛ لأنه وقع الوعيد عليها بالنار، وأن الإحسان إلى الجيران من الأسباب التي توجب الجنان.
فحق الجار عظيم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ يشكو جاره فقال: «اذهب فاصبر» فأتاه مرتين أو ثلاثا فقال: «اذهب فاطرح متاعك في الطريق، فطرح متاعه في الطريق، فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره فجعل الناس يلعنونه؛ فعل الله به، وفعل وفعل، فجاء إليه جاره فقال له: ارجع لا ترى مني شيئا تكرهه».
ففيه بيان عظم جناية أذية الجار، وأنها تورث صاحبها لعنة خلق الله، ومن لعنه خلق الله فربما أوجب ذلك عليه لعنة الله لأن الأصل أن المؤمنين لا يجتمعون إلا على لعن مذموم ولاسيما أصحاب النبي ﷺ، فلما تتابعوا على هذا الأمر علم أن إيذاء الجار من جملة الأعمال التي يلعن عليها العبد.
واسمعوا قول الله ﷻ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا﴾ — [النساء ٣٦].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
وهذه: خطبة عن حقوق الجار والإحسان إليه
الخطبة الثانية
الحمد الله حق حمده، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، نشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد؛ فالجار ثلاثة أصناف:
- الأول: جار له حق واحد: وهو حق الجوار؛ وهو الجار غير المسلم، ولا تربطه بجاره صلة قرابة.
- الثاني: جار له حقان: حق الجوار والإسلام، وهو الجار المسلم، ولا تربطه بجاره صلة قربى ورحم.
- الثالث: جار له ثلاثة حقوق: حق الجوار والإسلام والقرابة، وهو الجار المسلم من الأقارب.
حقوق الجيران
ويمكن أن نجمل حقوق الجار فيما يأتي:
- أولا: الإحسان إليه قولا وفعلا.
- ثانيا: حماية عرضه وماله.
- ثالثا: ردّ الغيبة عنه.
- رابعا: حفظ أسراره.
- خامسا: مشاركته أفراحه.
- سادسا: مواساته في مصائبه وأحزانه.
- سابعا: عيادته في حالة المرض.
- ثامنا: تفقده وتلبية احتياجاته عند الحاجة بقدر الاستطاعة.
- تاسعا: منع الأذى عنه بجميع صوره.
- عاشرا: السعي في الإصلاح بين الجيران المتخاصمين.
- الحادي عشر: مصاحبته إلى المسجد.
- الثاني عشر: إحسان الظن به.
- الثالث عشر: مبادرته بالسّلام.
- الرابع عشر: الصبر على أذى الجار، أو التحول عنه، لا مقابلة الإساءة بالاساءة.
واعلموا أن النبي ﷺ قال: «من صلى على واحدة صلى الله عليه عشرا».
فاللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء؛ الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
قال شداد بن أوس رضي الله عنه: سمعت رسول اللہ ﷺ يقول: «إذا كنز الناس الذهب والفضة، فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك وأسألك قلبا سليما وأسألك لسانا صادقا وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب».
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم تقبل توبتنا، وثبت حجتنا، واغفر زلتنا، وأقل عثرتنا يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الرحمن؛ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ — [النّحل].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
وبعد؛ فقد قدَّمنا لكم –إخواني الخطباء– خطبة جمعة مكتوبة حول إكرام الجار وحقوق الجيران. نسأل الله ﷻ أن تنتفعوا بكل ما جاء فيها من وعظ بليغ، وإرشاد حسن.
بارك الله فيكم