مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي خلق الإنسان وجعله في الأرض خليفة، وبوأه فيها مكانا عليا ومنازل شريفة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل من سعادة المرء الإيمان بالله، وعمارة دنياه وأخراه، والتفاعل مع أحداث الحياة.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، أرسله ربه بدين يكفل للإنسان حياة معتدلة لا شطط فيها ولا قصور، تحقيقا للتوازن والاعتدال في كل الأمور، ﷺ وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الخطبة الأولى
أما بعد، فيا عباد الله: إن الإسلام دين يدعو الناس ويحثهم على عمارة دنياهم وأخراهم على السواء، تحقيقا للتوازن المنشود، الذي جعله الله سمة بارزة في هذا الوجود، ففي الاهتمام بالعاجلة وإغفال الآجلة أو العكس بعد عن التوازن وشرود، وإعراض عن المنهج السوي وصدود، ولقد كان رسول الله ﷺ يسأل ربه أن يعمر دنياه وأخراه، فما أكثر ما كان يدعو بهذا الدعاء القرآني الكريم: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)؛ لأنه دعاء جامع لخير الدارين، وقصد صالح نافع في الحياتين، فإن حسنة الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من صحة وعافية، ودار رحبة وزواج سعيد، ورزق واسع وعلم نافع، وعمل رشيد وقول سديد، أما حسنة الآخرة فرضوان من الله وما يترتب عليه من دخول جنة النعيم، والحصول على ما فيها من خير عميم، ونعيم مقيم وعز وتكريم.
وحين صرف قارون همه إلى الدنيا وانصرف عن الآخرة، نصحه بعض الذين أوتوا العلم من قومه وأرشدوه، وذكروه ونبهوه بأن انصرافه عن الاهتمام بالآخرة واهتمامه بالدنيا فقط، فيه جنوح عن الحق وشطط، فالمؤمن حقا هو من يعمل لأخراه ولا ينسى دنياه، فبهذا التصرف المرغوب فيه يحقق التوازن المطلوب، فقالوا له كما حكى القرآن الكريم: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)، وجاء في الأثر: «ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا الآخرة للدنيا، ولكن خيركم من أخذ من هذه لهذه».
إن اليوم الذي يستقبله الإنسان هو له رصيد، يجب عليه أن يعمره بعمل نافع مفيد، ولقد كان الرسول ﷺ يستقبل كل يوم جديد بقلب خاشع منيب، وابتهال إلى الله السميع المجيب، أن يرزقه خيره وخير ما فيه، وأن يجعله مباركا بالعمل الخلاق، والالتزام بمكارم الأخلاق، فبذلك يعمر يوم الإنسان فتعمر حياته، فما حياة الإنسان إلا أيام تمر، فإن مرت عامرة بالسعي والحركة، أودع الله فيها البركة، ولما كان معنى البركة ثبوت الخير واستقراره، ثم دوامه واستمراره، انتقلت بركة الحياة الدنيا مع المؤمن المعمر لدنياه إلى أخراه ما دام ملازما للإيمان بالله، يقول الرسول ﷺ: «إذا أصبح أحدكم فليقل: أصبحنا وأصبح الملك لله رب العالمين، اللهم إني أسألك خير هذا اليوم، فتحه ونصره وبركته وهداه، وأعوذ بك من شر ما فيه وشر ما بعده، ثم إذا أمسى فليقل مثل ذلك».
عباد الله: إن الإسلام دين لا يعادي الحياة ولا يخاصمها، ولا يرضى لمؤمن أن يعيش على هامشها، بل يريده في جميع مجالات العمل المفيد سباقا، وإلى معالي الأمور تواقا، ليكون في مقدمة من أسهموا في عمارة الحياة الدنيا، ومن أجل تحقيق هذا الهدف حث الإسلام على تلقي العلم من جميع مظانه، وعلى التفوق في جميع فروعه، من علوم إنسانية وحيوانية ونباتية، وطبيعية وجمالية، من حيث تنوع الأشكال والألوان، مما يستفاد منه في فنون العمران، وقد جمع القرآن الكريم ذلك بإعجازه المعهود والمشهود في آيتين كريمتين، حيث قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ).
إن الذي يهرب من الحياة الدنيا بعدم المشاركة في عمارتها، تقاعس عن أداء واجب محتوم، والتقاعس تصرف سيئ مذموم.
إن النجاح في مضمار الحياة، والتفوق في كل المجالات والميادين المتاحة، هو مصدر سعادة وطمأنينة وراحة، وليس حقا القول بأن الانزواء والانطواء عبادة، وأن نفض الإنسان يده من الدنيا يحقق للمرء سعادة، وليس حقا القول بأن الانصراف عن العمل الدنيوي زهد، بل هو جنوح عن أوامر الإسلام وبُعْد.
إن الله ﷻ دعا الناس جميعا إلى سبر أسرار هذا الكون، والوقوف على خفاياه ومعرفة خفايا النفس البشرية، وقد وعدهم الله ﷻ إن هم فعلوا ذلك أن ييسر لهم لذلك الأسباب، وأن يفتح لهم ما أغلق من أبواب، ليصلوا في النهاية إلى قطف الثمرات وحيازة الخيرات، التي من أهمها الإيمان بالله الحق، والعلم بأنه سبحانه ما خلق السماوات والأرض إلا بالحق.
يقول الله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، ويقول ﷻ: (قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، إن الإيمان بالله إذا استقر في القلب ترجمته الجوارح والعقول والأذهان استباقا إلى عمل الصالحات، ومسارعة في الخيرات، وتنافسا في العلوم والاكتشافات والمخترعات.
فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أنه من أراد الوصول إلى الآخرة سالما فلن يصل إليها إلا مرورا بالحياة الدنيا، فإن عمر الإنسان حياته متسلحا بالإيمان، وصل إلى الدار الآخرة بسلام وأمان.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
هذه أيضًا ⇐ عمارة الأرض والاستخلاف.. خطبة في منتهى الأهمية
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، حث عباده على العمل في شتى صوره ومجالاته، وأمر بالحكم عليه باحتساب بواعثه وغاياته، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله: لقد أراد الله ﷻ أن تتعدد أوجه النشاط البشري من زراعة وصناعة وتجارة وحرف وأعمال أخرى حتى يتيسر للإنسان الإسهام في البناء والعمران بالنشاط الذي يلائمه ويوائم قدراته، والإسلام ينظر إلى أي عمل يسهم في العمران والرقي والبناء على أنه عمل طيب وبناء، فلا يوجد عمل محترم وآخر أقل احتراما، إذ العمل في كل مهنة حلال وفي أي مجال طيب هو شرف يعتز به؛ لأن الإنسان بهذا العمل من جهة يستغني عن ذل الحاجة، وهو من جهة أخرى يخدم وطنه وبلاده.
ولقد ضرب الرسول ﷺ مثلا على ذلك بنفسه إذ زاول مهنة الرعي وهو صغير، فذكرها معتزا بها وهو كبير، فقال -عليه الصلاة والسلام-: «ما بعث الله نبيا إلا ورعى الغنم، فقالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة».
كما ضرب الرسول ﷺ على ذلك مثلا بمهنة أخيه نبي الله داود -عليه السلام- وقد كان يعمل في الحدادة فقال: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده»، إن اليد التي لا تعمل عملا ولا تزاول حرفة ولا تسهم في التعمير والبناء هي يد شلاء، وإن العقل الذي لا يسهم في اختراع وابتكار وتجديد ونماء هو عقل أغفل مهمته، وفقد وظيفته ورسالته.
فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن الإنسان الذي يقبل على الدنيا بعزيمة قوية وبصيرة سوية مصطحبا معه الإيمان بالله، سينتقل إلى الآخرة برصيد من الحسنات، يؤهله بفضل الله ورحمته لتبوؤ أرفع الدرجات في الجنات.
هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين؛ محمد الهادي الأمين، فقد أمركم ربكم بذلك حين قال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت وسلمت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما باركت على نبينا إبراهيم وعلى آل نبينا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن جمعنا هذا برحمتك يا أرحم الراحمين.