مقدمة الخطبة
الحمد لله رافِع الدرجات لمن انخفض لجلاله، وفاتِح البركات لمن انتصب شكرًا لآلائه، والصلاة والسلام على من مَدَّت له الفصاحة رواقها وشدت به البلاغة نِطاقها.
إذا عرضت لي في زماني حاجة
وقد أشكلت فيها عليّ المقاصد
وقفت بباب الله وقفة ضارعٍ
وقلت: إلهي إنني لك قاصد
ولست تراني واقفًا عند باب
من يقول فتاه سيدي اليوم راقد.
وأشهد أن لا إله إلا الله علَّم وألهم وأنعم وأكرم وحكم وأحكم وأوجب وألزم وأخَّر وقدم. وأشهد أن سيدنا ونبينا وعظيمنا محمدًا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين وصحبه الغر الميامين. أوصيكم يا عباد الله وإياي بتقوى الله العظيم وطاعته ولزوم أوامره وكثرة مخافته؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).
الخطبة الأولى
أما بعد، فيا أمة الحبيب المصطفى ﷺ، يا طلاب القرآن وعُشاق الفضيلة، إن الله جل جلاله وعمَّ نواله جعل الأيام مستودعًا للطاعات ومحلاً للقرب، وجعل الليل والنهار خلفه لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكورًا. ولذلك، فضل الله بعض الأيام على بعض، واصطفى بعض الشهور على بعضٍ.
فربي، ذاك الذي اصطفى رمضان على سائِر الشهور، واصطفى يوم الجمعة وجعلها أميرًا على الأيام، هو نفسه اصطفى أيام عشر ذي الحجة التي والله وتالله وبالله لو علم المسلمون عظيم شأنها وكيف أن الله رفع لواءها وشأنها وعظمتها وقدرها لما فرط المسلم دقيقة فيها. كيف لا؟ كيف لا ونبينا ﷺ يقول: ماذا يقول؟ أعرني قلبك قبل سمعك. “ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من العمل في عشر ذي الحجة“. قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ -الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام؟- قال: “ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل ذهب بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء“.
هذه الأيام العظيمة هي أيام الذكر والتحميد والتهليل والتقديس والتمجيد. هذه الأيام التي أقسم الله بها يوم أن قال: (والفجر * وليال عشر). والله عظيم لا يقسم إلا بعظيم.
ولذلك أيها المسلم الغالي والحبيب، إيماننا يُخلَق على مدى الغفلات، على مدى الابتعاد عن الحسنات والطاعات، فجاءت هذه الأيام لكي نجدد العهد والولاء والطاعة والإيمان لله رب العالمين. فإن الإيمان يزداد بالتقوى وينقص بالمعاصي، إيماننا قولٌ وفعل ونية، ويزداد بالتقوى وينقص بالردى.
فاجعل لك برنامجًا في هذه النفحات من تلاوةٍ للقرآن، من صلة للرحم، من العفو والإحسان، من التسامح، من تفقد الأيتام، من الصدقات.
إذا مات ابن آدم ليس يجري عليه من خصال غير عشر: علوم بثها ودعاء نجل وحفر بئر أو إجراء نهر، وراثة مصحف، ورباط ثغر، وبيت للغريب إليه يأوي، وبناء محل ذكرى، وتعليم لقرآن كريم. فخذها من أحاديث بحصر.
أن تغتنم هذه الأوقات بالدعاء، وما أدراك ما الدعاء في هذه الأيام، فأين المشمرون؟ أين المجتهدون؟ أين التائبون؟ أين الراكعون؟ أين الساجدون؟
(التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).
يقول الحسن البصري -وهو من التابعين- كما ورد في تفسير الدر المنثور؛ ماذا يقول عن هذه الأيام؟ أعرني قلبك قبل سمعك. يقول: إن صيام يوم واحد من عشر ذي الحجة يعدل صيام شهرين.
لا إله إلا الله، هذا من غير عرفة. أنا لا أتكلم عن يوم عرفة الذي سنتكلم عنه في الأيام الآتيات، لكن أتكلم عن هذه الأيام الفضليات الطيبات العطرات المنيفات المباركات، فإن المجتهدين على طاعة الله عز وجل، فنهار عشر ذي الحجة أفضل من نهار رمضان. أكتب هذه العبارة في قلبك: نهار عشر ذي الحجة أعظم من نهار رمضان، لأنه إذا كان جبريل ينزل في ليلة القدر، أتدرون من ينزل في يوم عرفة؟ إنه الله جل جلاله ليطلع على عباده.
وهذه الأيام التي اشتملت على أمهات العبادات من صلاة وحج وزكاة وتلاوة للقرآن، وهدي ونحر ودعاء.
فلنتوقف عند هذه المحطة الإيمانية الرائدة العظيمة لنلتقط أنفاسنا لكي ننتشل قلوبنا وأرواحنا من هذا الضياع.
حديث الروح للأرواح يسري
وتدركه القلوب بلا عنـاءِ
هتفت به فطار بلا جناح
وشق أنينه صدر الفضـاء
ومعدنه ترابي ولكن
جرت في لفظه لغة السماءِ
لقد فاضت دموع العشق مني
حديثاً كان علوي النداءِ
فحلق في ربى الأفلاك حتى
أهاج العالم الأعلى بكائـي
فاجعل دمعتك وخشيتك وسجدتك وصلتك بالله رب العالمين، ولا تنس إخوانك أولئك الذين والله تعجبت السماء من صبرهم، ودونت الملائكة دماءهم. ألا ننسى إخوة لنا في غزة وفلسطين. يقول أحدهم: والله كنا في يوم الجمعة نذهب إلى المساجد مصطحبين أطفالنا، ثم نعود لنرى زوجاتنا قد هيّأت ألذ أطباق الطعام. واليوم لم يبق عندنا مساجد ولا أطفال ولا طعام ولا مأوى ولا مثوى.. فقط وحده سيل الرصاص بأرضنا أشد انهمارًا من دموع الأرامل، على نشرة الأخبار تلمح أصبعًا يشير لقتلى، لا يشير لقاتلي. فكيف نغني في بلاد تحولت إلى سجن حرام فيه صوت البلابل؟ ولكننا بالرغم من ذاك لم نكن سنابل تحني رأسها للمناجل. وأسماء قتلانا معالم في الدجى تضيء، فلا نحتاج ضوء المشاعل.
طفلة.. عندما يقع الانفجار بالقرب منها تستفيق على يدها قد قُطعت، أتدرون ماذا صنعت؟ تأخذ يدها تعيدها لعلها ترجع.. وهيهات هيهات.
هذا الجوع وهذا الظلم وهذا القتل. ألا لعنة الله على الصَّـ.ـهاينـ،ـة ومن والاهم ومن أيدهم ومن طبَّع معهم. ألا لعنة الله عليهم.. فلا نامت أعين الجبناء.
(رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين).
⇐ هذه أيضًا خطبة: العمل الصالح في عشر ذي الحجة – مكتوبة / بالعناصر
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام أبدًا ودائمًا وسرمدًا على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، يا إخواني فاثنان مليار مسلم؛ وثلة من المؤمنين يعانون ما يعانون من قتل ونهب وتهجير، ما عادت الخيام تأويهم ولا البحار تحملهم، وإنما يتوجهون إلى الله بدموعهم ويقولون: يا رب عوضنا عن كل مُر مر بنا، وعن كل ألمٍ ألمَّ بنا. فلله دركم، والله ليعوضنكم الله خيرا.
لا يُلام الذئب في عدوانه
إن يك الراعي عدو الغنم.
- اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، ومن العمل ما ترضى.
- اللهم فرج عن إخواننا في غزة وفلسطين. اللهم يا رب كل إخواننا في السودان وفي كل بقعة من بقاع الإسلام.
- اللهم كن إخواننا في سوريا، واجمع صفوفهم.
- اللهم أغث المسلمين يا غياث المستغيثين، ويا صريخ المستصرخين.
- اللهم خفف وطأة الحر على الفقراء والمساكين برحمتك يا ذا الجلال والإكرام.
هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
⇐ ألقى هذه الخطبة المباركة: الشيخ د. عبد الحميد جدوع الجميلي، فجزاه الله خيرا.