تم تحديد خطبة الجمعة القادمة على منابر جمهورية مصر العربية بواسطة وزارة الأوقاف، والتي ستكون بعنوان/ أدب الحوار والتعبير عن الرأي. وهنا نعطيكم الخطبة الغير رسمية مكتوبة في الأسطر أدناه.
الحمد لله رب العالمين، هادي الحيارى والضالين، شافي المرضى، ومطعم الجوعى ورازق المحتاجين، الحمد لله الستير الذي أسبل ستره على الفجر والعاصين، والذي يقبل توبة التائبين، ويفرح بعودة الأوابين، ويفتح بالبركة والخير على المتوكلين، ويجيب دعاء السائلين والواقفين ببابه وبحبله مستمسكين، الحمد لله رب الخلق أجمعين، ومولاهم ووليهم وهو أعلم بهم وهو أرحم الراحمين
والصلاة والسلام على سيد الخلق وإمام المرسلين، قائد الغر المحجلين، ومنقذنا من الضلال ومخرجنا من الظلمات إلى النور، وشفيعنا عند الموقف العظيم، من يخاف علينا ويدع لنا ويحمل همنا، من جاء إلينا بطوق النجاة وخير الحياة والممات، وجهر إلينا بسر السعادة في الدارين، وعلى من انتسب إليه من آل بيته الأخيار وزوجاته الأطهار، وصحبه المؤمنين الذين آزروا وآوو ونصروا وصدقو ما عاهدوا الله عليه، وعلى تابعيهم والتابعين بإحسان إلى يوم الرجوع إلى الحنان المنان ثم أما بعد..
فاليوم يتجدد لقاؤنا الطيب في رحاب بيت من بيوت الله وفي خير يوم من أيام الله، لنتقرب إليه بتذكرة تبقى ذخراً لنا ونسأل الله أن يثقل بها موازيننا وتذكرتنا اليوم وعنوان خطبتنا (أدب الحوار والتعبير عن الرأي) فاسمعوا وعوا يرحمنا ويرحمكم الله.
لقد جاء ديننا بكل ما هو راق ونبيل من الأخلاق والسلوكيات القويمة، والمناهج السليمة التي ترقى بالعباد وتبلغهم النجاح والوصول إلى تحصيل النفع في الدنيا والآخرة، ومن الآداب التي دعا إليها وحث عليها أدب الحوار والتعبير عن الرأي، بحرية وأريحية لا تفتقر إلى الذوق الراقي والأدب الجم، وقبل الخوض في الحديث عن آداب الحوار لنتعرف أولاً على معنى الحوار وتعريفه.
فالحوار في اللغة مأخوذ من لفظ الحور أي الرجوع عن الشيء والرجوع إليه، ومنه المحاورة في الكلام أي مراجعة الكلام والمنطق بين المتحادثين، ومن التعريف اللغوي يظهر لنا المعنى الدلالي والمفهوم من كلمة الحوار والذي يعني تداول الكلام ومراجعته بين طرفين أو فريقين، يعلوه الهدوء ويقوده التواضع وتزينه الموضوعية، فإن خرج عن هذه الحدود وشذ عن تلك القاعدة وخالطه التعصب والرغبة في فرض الرأي، أو الاستئثار بالحديث دون إعطاء الآخر مساحته في طرح وجهة نظره صار جدالاً، وقد يتطور فيصبح خصومة أو ينقلب إلى شجار.
وانطلاقاً من هذا المفهوم عن الحوار يصبح الحوار هو سلوك راق ووسيلة راقية وعملية للتواصل وطرح الرأي والرأي الآخر والوصول إلى أفضل نتيجة ممكنة دون تعصب لفكرة ولا رأي بعينه.
كيف أعلى الإسلام قيمة أدب الحوار والتعبير عن الرأي؟
إن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة كلاهما أعلى قيمة الحوار ولم يحجر التعبير عن الرأي ما دام في نطاق الأدب والتعبير السليم الذي لا يخرج عن حدود اللياقة، وقبل أن نذكر المواقف والإشارات الدينية التي أيدت الحوار وأقرته كوسيلة من وسائل الإقناع وتوصيل وجهة النظر والوصول إلى الحق بالحجة والمنطق.
فعلينا أن نعرف أن العنوان يحمل محورين أولهما أدب الحوار والحوار هو ما يكون بين أطراف متكافئة أو فريقين متساويين في المكانة أو الدرجة أو نحوه.
أما التعبير عن الرأي فهو صلاحية يمنحها الأعلى لمن هو دونه منزلة أو خبرة أو سناً، فقد يمنح بعض الحكام لشعوبهم حرية التعبير عن الرأي، وقد يمنح الأب لابنه الصغير الحرية ليشارك برأيه في ما يجري حوله ويعبر عن وجهة نظره.
الحوار وأدبه في الكتاب والسنة
أما القرآن الكريم فقد أكد من خلال سياقه الكريم ومنهجه وسرد سوره وآياته قيمة الحوار وأنه أساس التوصل إلى الحق والآيات الواردة في هذا المعنى والتي تسير في هذا النسق كثيرة جداً ولا تعد ومنها على سبيل المثال وليس الحصر.، حوار قارون مع قومه، وحوار إبراهيم عليه السلام مع الرجل الذي آتاه الله الملك، وحواره مع أبيه آزر، وكذلك قصة داود عليه السلام مع الخصمين، وحوار موسي عليه السلام مع العبد الصالح، وحوار ابني آدم عليه السلام وغيره الكثير من الحوارات التي أوردها القرآن الكريم ليبين لنا أن الحوار الراقي والمنطقي هو ما يقودنا للإيمان فقط فالإيمان لا يتأتي إلا مع الاقناع والاقتناع، ولا يمكن أن يفرض بالقوة مهما حدث.
أما الحوار في السنة النبوية فنراه في مواقف كثيرة ومواضع متعددة تؤكد جميعها في النهاية أن الحوار هو وسيلة من وسائل الدعوة إلا الحق والتنفير من الباطل، ووسيلة من وسائل النهي عن المنكر والأمر بالمعروف التي لها كبير الأثر في النفوس الطيبة لأصحاب الفطرة السليمة.
أما الحوار في السنة النبوية فإنه يعكس بما لا يدع مجالا للشك رقي الدعوة الإسلامية وعظمة الصادق المصدوق حامل لوائها والداعي لها، والذي ضرب لنا أروع الأمثلة في الإقناع بالحوار وفي هداية الضالين والحيارى والتائهين بالكلمة الطيبة والموعظة الحسة بعيدا عن التعصب أو فرض الرأي بالقوة أو الإكراه على أي شيء، ولعل من أروع المواقف وأدلها على ذلك، ذلك الحوار الذي دار بين النبي (ﷺ) وبين شاب يأتي إليه يطلب منه أن يأذن له في الزنا ويبيحه له، فحاوره النبي “ﷺ” بكل احترام وسعة صدر وأقنعه وصرفه عنه بطريقة تجعله لا يعود إلى تلك الفكرة أبدا، حتى وإن غاب عنه الرقيب أو ضعفت نفسه وغالبه هواه، حاوره ولم ينهره أو يزجره أو يعيب عليه طلبه، أو يستنكر ما يعرضه عليه أو يتهمه بسوء الخلق أو ضعف الدين أو غيره مما يمكن أن يأتي ببال أحد من الناس لو كان في مثل هذا الموقف.
وهذا الموقف يرويه عن النبي “ﷺ” أبو أمامة “رضي الله عنه” فيقول: (إن غلاماً شاباً أتى النبي ” ﷺ ” فقال له يا نبي الله أتأذن لي في الزنا؟ فصاح الناس به، فقال النبي ” ﷺ ” قربوه، ادن، فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي ” ﷺ “: أتحبه لأمك؟ قال: لا! جعلني الله فداك، قال كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لابنتك؟ قال: لا! جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟ قال: لا! جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم، فوضع رسول الله ” ﷺ ” يده على صدره وقال: اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحصن فرجه، فلم يكن شيء أبغض إليه من الزنا.
وكذلك موقف النبي “ﷺ” وحواره الراقي المنطقي مع رجل من البادية جاء ينكر ابنه، فأقنعه بالعقل والمنطق والحوار ورد إليه عقله وهذا ما نقله لنا حديث عبد الله بن عمر “رضي الله عنه” عن النبي “ﷺ” أنَّه جاءه رجل من أهل البادية، فقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ إنَّ امرأَتي وَلَدَت على فراشي غلامًا أسوَدَ. وإنَّا أَهْلُ بيتٍ لم يَكُن فينا أسوَدُ قطُّ؟ قالَ: هل لَكَ مِن إبلٍ؟ قالَ: نعَم، قالَ: فما ألوانُها؟ قالَ: حُمرٌ، قالَ: هل فيها أسوَدُ؟ قالَ: لا قالَ: فيها أورَقُ؟ قالَ: نعَم، قالَ: فأنَّى كانَ ذلِكَ؟ قالَ: عسَى أن يَكونَ نزعَهُ عِرقٌ. قالَ: فلَعلَّ ابنَكَ هذا نزعَهُ عرقٌ.
ولم يكن حوار النبي وحلمه حكراً على المسلمين أو المهذبين بل كان يشمل الحمقى والمتسرعين، وكانت سعة صدره تسمح حتى ليهودي أن يحدث النبي ويتهمه بل ويتطاول عليه أيضا، ومثل هذا الموقف حدث مع النبي “ﷺ ومع رجل يقال له زيد بن سعنة حيث جاء يطالبه بدين له، فأمسك بقميص النبي “ﷺ” وأغلظ له القول وقال: (يا محمد، ألا تقضيني حقي، إنكم يا بني عبد المطلب قوم مُطْلٌ، وشدّد لـه في القول، فنظر إليه عمر وعيناه تدوران في رأسه كالفلك المستدير، ثم قال: يا عدو اللَّه، أتقول لرسول اللَّه ما أسمع، وتفعل ما أرى، فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك، ورسول اللَّه ينظر إلى عمر في سكون وتُؤَدَةٍ وتَبَسُّمٍ، ثم قال: ((أنا وهو يا عمر كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التقاضي، اذهب به يا عمر فاقضه حقه، وزده عشرين صاعاً من تمرٍ)، فكان هذا الحوار بين النبي وعمر بن الخطاب حاملاً له على دخول الإسلام والنطق بالشهادة.
وغير ذلك الكثير من المواقف واللفتات المضيئة، في السنة النبوية التي تعكس أدب الحوار ورقيه وروعته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الحمد لله رب العالمين، جامع الناس في يوم لا ريب فيه، والصلاة والسلام على خير الخلق والأنام، مخلص الناس من ظلمات الجهل، ومن ويلات الضلال والزلل، وعلى أزواجه وآل بيته وأصحابه ومن استن بسنتهم وتبع نهجهم وسار على هديهم، واسترشد بنورهم، إلى يوم الدين، ثم أما بعد ..
فما زلنا بصدد الحديث عن (أدب الحوار والتعبير عن الرأي) ، وقد تكلمنا آنفا عن الحوار في القرآن الكريم والسنة النبوية، ثم نتناول الآن المحور الثاني وهو حرية التعبير التي كفلها الإسلام لكل الناس مهما اختلفت درجاتهم أو تفاوتت مستوياتهم، أو تباينت توجهاتهم ومعتقداتهم وأفكارهم، ولا عجب فهو دين يعزز قيمة الشورى ويعلي مبدأ الأخذ بالرأي الآخر، وما ينطوي عليه ذلك من معنى التواضع والمرونة والموضوعية والحكمة أيضاً، وقد امتدح الله عز وجل المسلمين الأوائل من الصحابة الكرام، الذي يتشاورون فيما بينهم ويتبادلون الرأي والخبرة فقال جل وعلا: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38)، ليس ذلك فحسب بل أمر الله عز وجل النبي بمشاورة أصحابه والسماح لهم بإبداء الرأي وطرح أسبابهم فقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159).
وقد شاور النبي أصحابه في مواقف كثيرة حكتها لنا السيرة النبوية المطهرة، بل وجاء رأيهم مخالفا لرأيه في بعض الأمور، وتبين صحة رأيهم وسداد منطقهم، وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، ولا يأتي منه الخطأ ولا الزلل أبداً، وإذا كان هذا الحق مكفولاً للعامة أمام نبيهم وفي حضرة إمامهم فهو من باب أولى يكون مكفولا لكل انسان في خضرة أي انسان آخر، ما لم يسيء الأدب أو يتطاول، أو يتعدى حدود الذوق.
مواقف تعكس حرية التعبير عن الرأي في حضرة المصطفى “ﷺ”
في غزوة بدر نزلت قريش بالعدوة القصوى من الوادي، وخرج النبي واتخذ مكانا لجيشه، فتوجه إليه حباب بن المنذر وسأله عن سبب اختيار هذا المكان بالذات فقال: يا رسول الله، أرأيتَ هذا المنزل، أمنزلًا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نعورّ ما وراءه من القُلُب، ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله “ﷺ: لقد أشرت بالرأي، فنهض رسول الله “ﷺ” ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقُلُب فعوّرت وبنى حوضًا على القليب الذي نزل عليه فمُلئ ماءً، ثم قذفوا فيه الآنية “.
كذلك موقف تعبير عمر بن الخطاب عن رأيه في مسألة أسرى غزوة بدر، والذي جاء القرآن مؤيدا له وموافقا، كذلك حدث أن خالف على بن أبي طالب “رضي الله عنه” رأي النبي في صلح الحديبة ، فقد ورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم، أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لعليّ يوم صلح الحديبية: “اكْتُب الشّرط بيننا. بسم اللّه الرحمن الرّحيم. هذا ما قاضى عليه محمّدٌ رسول اللّهِ” فقال له المشركون: لو نعلم أنّك رسول الله لاتبعناك، ولكن اكتبْ: محمّد بن عبد الله. فأمر علِيّاً أن يَمْحََا. فقال عليّ: لا، واللهِ! لا أمْحَهاَ. فقالَ رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: “أرني مكانها” فأراه مكانها، فمحاها. وكتب “ابنُ عبد اللهِ”.
هذا قليل من كثير من المواقف التي أيدت التعبير عن الرأي وكفلته للمسلم ما دام لا يدع إلى أثم أو أذى أو غيره مما لا يرضاه الله ولا رسوله.
أهم آداب الحوار والتعبير عن الرأي
إن للحوار أداب ينبغي أن يلزمها الانسان مهما كان من يحاوره، وللتعبير عن الرأي حدود من الذوق والاحترام وعدم التطاول على الغير أو إلحاق الأذى بهم، فمن يلزمها فهو جدير بها ومن يسيء استخدام حقه في التعبير عن رأيه، فيفسد في الأرض أو يؤجج الفتن، أو يدعو إليها، أو يدعوا للمعاصي أو يروج لها، أو يشعل نيران الغضب، بتطاول أو سوء أدب فليحرم منها، وليبقى رأيه سجين صدره.
فوالله ما جعلت حرية الرأي ليستباح بها أعراض الناس، ولا ليسمح لأحد بالمساس بمقدسات الآخرين ولا التطاول على رموزهم.
وفي الختام
نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يذكرنا ما نسينا ويعلمنا ما جهلنا، ويجعل كل ذلك حجة لنا لا علينا، ويجعلنا ممن يصلحون في الأرض ولا يفسدونا فيها، ويجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.