بالرغم من أنه لم يتلق أي قدر من التعليم وبالرغم من أنه مزارع بسيط إلا أنه أبدا لم يدخل غرفة أبنائه سواء المخصصة للبنات أو تلك المخصصة للذكور بدون استئذان، فكان يكتفي دائما بالوقوف أمام الباب ويطرق بإحدى بيده على يده الأخرى مناديا على من يريد، ومحافظا بذلك على مساحة من الخصوصية وعدم انتهاك حرمة أبنائه، أما الأم فكانت تمنح لأولادها كل الحب والرعاية والثقة بالنفس الناتجة عن ثقتها في تصرفاتهم.
في المقابل وداخل نفس المنزل الكبير الذي تقطن فيه العائلة كلها.. كان أخوه الأصغر ويعمل مدرسا في التربية والتعليم يفتش بشكل يومي ودوري وراء أبنائه فيفتح أدراجهم ويفتش ملابسهم، كانت والدتهم أيضا تعمل في مجال التعليم وهذا سهل عليها مهمة الاتصال بمدرسي أولادها للتأكد من حضورهم لتلقي الدرس والتأكد من كونهم لا يكذبون أو أنهم يتهربون من شيء ما.. كل ذلك دون أن يدري الأبناء، ولكن الحقيقة أنهم كانوا يعرفون كل شيء بعد ذلك فأصبحوا يتفننون في إخفاء أخبارهم وإخفاء كل ما يفعلوه، وكأنهم يلعبون لعبة “الغميضة” مع أبويهم.
لجان تفتيش منزلية
النتيجة أو المحصلة النهائية —وهي قصة حقيقية— كانت أن أبناء هذا الرجل المزارع كبروا ليصبحوا الأبناء الأكثر نجاحا وتفوقا على مستوى شخصياتهم ومستوى تعليمهم؛ مقارنة بأبناء عمهم وأبناء المنطقة كلها، أما بالنسبة لأبناء عمهم فأصبح يطلق عليهم “باب النجار مخلع” في إشارة إلى فشل أبويهم العاملين في مجال التدريس من تعليم أولادهم أو تربيتهم بشكل لائق.
وفي تعليقها على هذا الموضوع الخاص باحترام خصوصية الأبناء تقول وفاء أبو موسى المستشارة التربوية أنه تربوياً يجب على الوالدين احترام خصوصية الأبناء، ولكن طبيعة الثقافة العربية القائمة في أغلب الأسر على تقليدية التربية وعلى أسلوب السيادة الأبوية يرى الوالدين أن عليهم اختراق خصوصية أبنائهم وأن هذا حق لهم بحجة خوفهم الشديد على الأبناء تربويا، وهذه سلوكيات خاطئة فكلما زرعنا في نفوس أبنائنا احترام الخصوصية الشخصية كلما أنشأنا منهم أناس ناجحون في حياتهم معتمدين على ذاتهم مبادرين، ويكون الاحترام حليفهم بكل الخطوات.
وفي المقابل عدم احترام الآباء لخصوصية الأبناء وانتهاكهم لها في نفس الوقت له أضرار كثيرة منها فقدان الثقة بين الأبناء والآباء، وشعور الابن بتسلط الوالدين وإيذائهم له، فالأبناء لا يفسرون ذلك كما يسميه الآباء بالخوف على مصلحتهم بل “تدخل مؤذي” في حياتهم.
ومن الأضرار أيضا أن يرغب الأبناء في العيش بعيدا عن الأسرة، والتوحد مع الذات لخلق الخصوصية بعيدا عن عبث الوالدين، كما تزداد ثقة الأبناء بالخارج مقابل تدنيها في الداخل الأسري.
من هنا وجب على الآباء فهم الفرق بين التوجية والتسلط، فالتوجيه يعني أن توصل رسالة لأبنائك أنك معهم ولست ضدهم، والتسلط رسالة تعني أنك ملكي وليس لك حق على نفسك.
وهنا نقرأ عن: الغيرة لدى الطفل… ما أسباب تلك المشكلة والسيطرة عليها
عندما “يتلصص” الآباء!
بدوره يقول د.محمد المهدي —الطبيب النفسي— أن كثير من الأهل لا يعيرون فكرة خصوصية الأبناء أي اهتمام، ولا يحترمون ولا يحرصون إلا على مستقبل الأبناء المادي من تعليم وعمل وغيره، وفي سبيل ذلك يبررون كل شيء حتى التلصص على الأبناء وتتبع أخبارهم حتى أنهم يستعينون ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة في غير محلها ليبرروا ذلك لأنفسهم.
يقول بعض الآباء “نريد أن نلحق الخطر قبل ما يقع فيبرروا لأنفسهم تفتيش ملابس أبنائهم وأدراجهم وعندما يكبروا يفتشوا موبايلاتهم ورسائلهم وكل ما هو خاص بهم”، وعن هذا المنطق يقول د.المهدي أنه منطق مغري وجذاب وبعض الآباء يعتبرونه واجب عليهم وضرورى وحتمي أن يقوموا به بشكل يومي، ولكن على صعيد آخر فإن هذا ينتهك مبدأ هام وهو مبدأ الخصوصية لدى الأبناء ولو كانت هناك فائدة يعتقدها أولياء الأمور فإن حجم الأضرار هائل جدا أكثر من أي فائدة قد تنتج كاكتشاف كارثة بشكل مبكر ولكنه يفعل جريمة أكبر وهي فقدان الثقة بين الجانبين الأب والابن.
ونحن كخبراء —والكلام للطبيب النفسي— نقول للآباء أن الرسول ﷺ قال: “لا تتدابروا ولا تجسسوا ولا تحسسوا وكونوا عباد الله إخوانا” وهو حديث هام لأنه يوضح أهمية مبدأ الخصوصية وتحريم التجسس والتلصص على الآخرين، فالتدابر يعني أن يسير أحد وراء أحد في عملية تتبع مقصودة، ولا تجسسوا يعني ألا نتعمد معرفة أسرار الآخرين، ولا تحسسوا تعني ألا يتحسس أحد أخبار أحد، إذن فالكلمات الثلاثة تمنع أي شخص أن يضع شخص آخر “في دماغه” طوال الوقت ويحاول استكشاف ما يريد أن يخفيه.
هناك أيضا حديث “من اطلع في كتاب أخيه بغير علمه فكأنما اطلع في النار” حتى الرسول كان يطلب من الصحابة ألا يفشوا أسرار بعضهم البعض أو أن يقولوا أمامه مالا يريد أحد أن يعرف لأن الله حليم ستار وإذا عرف عن أحد ما ستره الله فقد لا يستطيع وهو بشر أن ينظر في وجهه مرة أخرى.. ونفس الشيء بالنسبة للأبناء فعندما يكتشف الأبوين عورات أبنائهم والمقصود هنا الأفعال التي يريد الأبناء أن يخفوها عن أبائهم، فإن الصورة تشوه في عين الأب والأم لأنه عرف أشياء عن ابنه تجعله ربما يكرهه أو يشعر نحوه بغضب شديد وبالتالي تضطرب العلاقة الأبوية جدا.
وهنا نجِـد: نصائح لتهيئة طفلك للسنة الدراسية الأولى
الوصاية الأبوية بدلا من الرعاية
ويستكمل المهدي موضحا معني الأحاديث النبوية بأن بعض الناس تقول أن تلك الأحاديث والمعاني الخاصة باحترام خصوصية الآخرين لا تنطبق على الأبناء فهي تخص عموم الناس، ولكن هذا غير صحيح فهي تنطبق على جميع الناس وكل العلاقات الإنسانية، فنحن لنا ما ظهر من الناس وهناك جزء خفي لكل إنسان لا يطلع عليه أحد، فهو يخفي هذا الشيء لأنه يشعر أنه جزء غير أخلاقي أو غير سليم في حياته، وهنا توجد فرصة للرجوع عنه مصدرها “تأنيب الضمير والشعور بالذنب”، ولكن في حال انكشف أمره وعرف الجميع أو عرف من يهتم لأمرهم بهذا الخطأ الذي ارتكبه فسيكف ضميره عن التأنيب وتصبح “مش فارقة” وسيتمادى في فعل ما يريد حتى لو عرف الجميع أنه خطأ فسيتعود على ذلك.
من جهة أخرى، فإن الابن المتعرض لانتهاك خصوصيته يشعر بالنفور واستغلال والديه له بحكم أبوتهم ويشعر أن الأب لا يمارس أبوته للرعاية وإنما للوصاية، والعلاقة الأبوية بالأساس هي علاقة رعاية وليست علاقة وصاية، وهنا يصبح أي مكسب حصل عليه الأب بالتجسس أو التلصص يواجهه مائة ألف خسارة بين الأب والبنت أو الابن ولن تكون هناك فرصة لإصلاحه.
وتجدون هنا أيضًا: تهيئة الأطفال للعودة للمدارس
حماية مبكرة من.. التحرش
يقول د.المهدي أيضا أن خصوصية الممتلكات أو خصوصية الجسد هو درس يتعلمه الأبناء من خلال علاقتهم بآبائهم، فعندما يستأذن الأب ابنته عندما يحتاج منها شيء تتعلم الابنة تلقائيا مبدأ الخصوصية ويكون ذلك في وقت مبكر جدا، وبالتالي فهي سوف تحترم خصوصية الآخرين وممتلكاتهم وستتعامل بالمثل بالطبع.. وما غير ذلك يعد سرقة أي أن آخذ شيء لا يخصني بدون استئذان.
جسد الطفل أيضا شيء خاص لا يمكن لأي أحد أن يتلمسه أو يتحسسه فيجب أن يعرف الطفل أن جسده له حرمة، وهذا له أهمية كبيرة في وقايته من التحرش، نحن لن نخيفه من كل الناس وقاية من التحرش ولكن عندما نعلمه ونعوده على حرمة جسده وخصوصيته فإنه سينتبه في حال حدث له أي مكروه وتحسسه أي غريب.
وهناك من الآباء والأمهات من ينتهكون أجساد أبنائهم.. يدخلوا غرفهم في سن المراهقة دون استئذان وهذا لا يصح، فلا يجوز للأب أن يرى ابنته وينتهك خصوصيتها وكذلك لا يجوز للأم أن تنتهك جسد ابنها.. ولابد أن يفهم الآباء أنه لا توجد علاقة تبرر انتهاك خصوصية جسد أو ممتلكات الأبناء.
وهنا نقرأ عن: الفرق بين تربية الأولاد والبنات في نقاط جوهرية
الخصوصية = الاستئذان
وعن المرحلة التي يجب تعليم الأبناء الخصوصية فيها تقول وفاء أبو موسى أن خصوصية الجسد لدى الأبناء تبدأ منذ مرحلة الطفولة المتأخرة، حين يبدأ الوالدين في تدريب أبنائهم على الاعتماد الكلي على الذات من حيث الاهتمام بالنظافة الشخصية وإعدادهم لمرحلة بدءْ النضج، وهي مرحلة المراهقة، وفيها حياء الابن والابنه يزيد نتيجة النضوج الجسدي والجنسي فيأخذ التحفظ وضعة المناسب في الخصوصية الذاتية.
أما مسألة استئذان الأبناء في أخذ ممتلكاتهم واحترام خصوصيتهم المعنوية كالطرق على باب غرفتهم مثلا، فهذا يبدأ منذ مرحلة الطفولة المبكرة، منذ أن يبدأ الطفل باكتشاف المحيط حوله فيتعلمون السلوكيات الحسنة ويبتعدون عن السلوكيات السلبية، وغالباً يحدث ذلك في سن الخامسة أي مرحلة التأسيس فيما قبل المدرسة، وتكتمل في مرحلة المدرسة حيث نتعلم قوانين الخصوصية، أما مبدأ الاستئذان يبدأ منذ الصغر وكلما كبر الأولاد كبر التزامهم بالمبدأ مع الممارسة والخبرة الأسرية.
بقلم: ليلى حلاوة
وهذه الصَّفحات قد تنال إعجابكم أيضًا: