الحمد لله حمداً كثيراً والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته، وسار على نهجه إلى يوم الدين، ثم أما بعد: فإن الدعاء مرفأ الخائفين وقبلة الضعفاء والعاجزين، ووسيلة المحتاجين إلى نيل حاجاتهم، وقبلة الصالحين والمؤمنين، فهم يعلمون أن لا إلاه إلا الله ولا نافع غير الله ولا ضار غير الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبهذا اليقين يطرقون باب الدعاء متوسلين راجين رحمة الله وفضله، آملين في لطفه وكرمه وسعة رزقه، وقد تطرقنا من قبل إلى أهمية الدعاء وأثره على الإنسان، وهنا سيكون محور الحديث هو مفهوم استجابة الدعاء بشكله الأعمق والأشمل معتمدين في ذلك على تفسيرات العلماء وأقوالهم في هذا الصدد، والله الموفق والمستعان.
كيفية وصور استجابة الدعاء
إن فهمنا الضيق لفكرة استجابة الدعاء يجعلنا نحصر تلك الاستجابة في تحقق ووقوع ما ندعو به، فمن يريد سعة الرزق يعتبر أن الاستجابة تتمثل في رزق يأتيه، أو باب عمل يفتح له أو إرث يظهر له، وهذا ليس صحيح دائما، فقد علمتنا السنة النبوية أن استجابة الدعاء إنما تكون بأمر من ثلاثة أمور:
استجابة الدعاء
بتعجيل القبول ووقوع المبتغى، وهي الصورة التي يتمناها كل من يدع الله بشيء أو يسأله حدوث خير له، فالطالب الذي يلح في دعائه بالنجاح، والمريض الذي يدع الله بالشفاء، ومن يسأل الله أن يرزقه الذرية، كلهم ينشدون هذا الخير ويتمنون وقوع ما سألو الله من فضله!
تأجيل استجابة الدعاء وتأخيره
وهذه الصورة هي مثار الجدل واللبس، فقد يؤخر الله استجابة الدعاء لحكمة من اثنين، فإما يؤخرها ويدخرها لعبده يوم القيامة، فيؤجر عليها، وإما أن يؤخرها حينا ويقضها له في الدنيا وكلاهما خير.
أن يدفع عنه بها مكروها لا يعلمه
ومما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخرها في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها قالوا إذاً نكثر؟ قال: الله أكثر “.
وفي هذا الحديث بيان شاف وكاف لمسألة استجابة الدعاء، فإن الله عز وجل قد يدخر الدعاء لعبده، وقد يدفع عنه مكروها ومن ثم فينبغ للمسلم ألا يمل الدعاء، ولا يضيق زرعا بتأخر الإجابة ففي ذلك حكمة كبيرة، لا يعلمها إلا الله.
يستجاب لك ما لم تستعجل
وانطلاقاً من هذا الفهم العميق لمفهوم الاستجابة وشموله واتساعه فينبغي الانقياد إلى الأدب الذي علمنا إياه الحبيب -صلى الله عليه وسلم- وهو عدم الاستعجال في الدعاء، وعدم التذمر من تأخر الاستجابة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: (لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ قَالَ يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ ) رواه مسلم.
لا تجعل حظك من الدعاء وقوع ما دعوت به
الدعاء في حد ذاته عبادة يثاب عليها المؤمن لأن فيها معنى التوكل والاستعانة بالله والإقرار بطلاقة قدرته، فالمسلم مأجور بهذا الدعاء على كل حال، ومن ثم فينبغ ألا يجعل المسلم حظه من دعائه وقوع المطلوب فقط وأن لا يجزع من تأخر ذلك، لسببين، أولهما أنه قد يدع الإنسان بالشر دعائه بالخير وهو لا يعلم، فيكون من فضل الله عليه ورحمته به أن لا يستجيب له، والشواهد على ذلك كثير جدا، والمتأمل يفهم ذلك ويتصل إليه.
ثانيهما: أن تأخير الاستجابة قد يكون فيه دفع لمكروه لا يطيقه العبد إذا وقع، ونحن نعلم أن دفع الضر أولى من جلب النفع، وربما يكون تأخير الدعاء ليوم القيامة ثواب وأجر ينتفع به المسلم يوم القيامة، حيث لا ينفع مال لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فيوم القيامة يوم يرى المؤمن ما ادخر الله له من دعوات ويود أن لو لم يستجاب له قط، فأمر الله كله خير استجابته لدعاء عبده كلها خير، فلا تكف عن الدعاء ولا تقطع حبل الرجاء ما حييت!!