رأيت فيما يرى النائم اليقظان أني هاجرت على راحلتي من هذه الأرض البائسة، قطعتْ بي الراحلة شأوا بعيدا عن غثاء هذه الحياة، حتى تغلغلت خلف الجبال فهنأ قلبي بمنظر هادئ رحيم، جدول ماء يصب من سفح الجبل حيث الأدغال والأشجار الكبيرة الخضراء، وسحرت بأصوات العصافير وأنواع الطيور تناجي بعضها، فهاهو صداها ينفذ إلى قلبي فيذهب باضطرابه ويحط مكانه بردا وسلاما، ثم باغتتني راحلتي وصعدت بي شيئا من منحدر الجبل حتى أدخلتني هذا الكهف ضخم الفم هائل المغارة فلما كنت في بطنه لم يأت ببالي غير شأن هدوئه الغريب فقد أورث بفؤادي وجلا أكثره خطوات راحلتي تتقدم نحو ظلمته عندما شع نور أبيض عظيم بهالة مُزهرة بفراشات ملونة فحملنا عبر درب الزمن لقرون مضت، وما أفقتُ إلا على صوت شارح يقول: وهذه الدولة العثمانية المنصورة بإذن الله هل أهبط بكم أم نكمل التحليق؟.
فلا أزال في دهشتي مطبقا لا أردُ عليه وإني لأرى الأرض تتحول والناس تأتي لحاجتها في سوقها وواجبها في مسجدها وتجول. فيطير بنا أزمانا ثم يقول وهذا يوم من خير أيام معارك المسلمين هذا حطين، فإذا بي أرى الصف واحدا كالبنيان المرصوص.. هو نفسه في الحجاز أو دمشق أو مصر أو فلسطين أو بغداد أو أي بقعة أخرى قد شدّ الله على قلوبهم وأيديهم وأرواحهم، ونحن لا نزال في السماء نحلق ويمضي بنا لسنين أخر فيخبرنا أن هذا هو زمن هارون الرشيد خليفة المسلمين.
ولقد شاهدنا عجائب من أحوال المعمورة فهاهي بغداد مهد الحضارة وعهد الخلافة وهاهي الأندلس دنيا العلم وحياة الفن الإسلامي التليد، وأبصرنا غرائب من أحوال الخلق فأيامهم هادئة نابض بها الخير والحب والعمق والنفع والبركة، ثم جاءت أيام بني أمية فرأينا عظمة الملوك وكيف زالت أملاكهم، وتفكرت كيف لم يبق من عهد هؤلاء الناس سوى قصص أخبارهم في بطون الكتب أو جمعة من آثارهم هي محروسة في متاحف الآثار، ثم ما هي إلا لحظة حتى اضطربت الراحلة اضطرابا كدت معه أن أسقط من عليها في فضاء السماء فأصابنا شعاع مزهو بروحانية ملتف حولنا فأخذ الرجل بخطام راحلتي حتى أنزلها على أرض مدينة محمد ﷺ فإذا نحن فيها بين أصحابه مع الرعيل الأول والطراز الأصيل.
مضينا في حبور يغبطنا وبهاء يصحبنا حتى أوقف الرجل راحلتي بباب المسجد هبطت أمشي نحو الباب يتملكني حب محمد ﷺ ودخلت فإذا بالناس قد تحلقوا حوله يقول لهم كلاما ربانيا هاديا مهديا، وإني كنت قد نويت تحية المسجد فلم ألتق بلبي وروحي إلا وقد بركت خلف الصحابة الجالسين فإذا بالسكينة تغمر قلبي وبالرحمة تتغشى نفسي، وما أنا إلا أسمعه وأراه بأم عيني رأيا لا يُخايل إلي فيه، وأنتَ أيها القارئ تراني قد جهلتُ جهلا كاملا بدنيا كنتُ في دنيا تعلوها الكآبة والاضطراب والأماني الكاذبة، وإذا بالنور يملأ روحي فتروى وما أكاد ارتوي حقا من نبع اليقين حتى يقبل الشارح علي يجرني من يدي جرا وأنا أصارعه لأبقى وهيهات، وعند باب المسجد تأكلني الحرقة وتسعفني دموع، فيُركبني على راحلتي رغما عني ثم يضربها بيده يأمرها بالإياب وهو يقول: عد حيث كنت فإن الزمن لا يعود، واعمل صالحا حتى تسعد.
بقلم: وردة النسيم
لديّ بعض المقترحات:
- فتقرأ هنا: لا تحلم يا أخا العرب!
- كذلك: متناقضات حقوق عامة
- ختامًا: الفضيلة والبناء