النفس البشرية تتنازعها الأهواء والرغبات، فتطمح إلى تحقيق المستحيلات، وتطمع في تحصيل كل ما يخطر لها من المتع والملذات، وتبذل في سبيل ذلك كل ما بوسعها من جهد، فيشغل المرء وقته وتفكيره بكيفية الوصول إلى ما يصبوا إليه، وقد يفوته أن ما قسم له من الرزق سوف يصله أينما كان وفي الوقت الذي يريده الله بالقدر الذي يريده الله عز وجل.
وهنا سوف نسعى معا في محاولة لتأصيل مفهوم حسن التوكل على الله وكيف يؤثر هذا المفهوم على حياة الإنسان وشعوره بالرضا والاطمئنان.
مفهوم حسن التوكل على الله
التوكل على الله معناه اعتماد العبد على الله بالكلية فيما يتعلق برزقه وحياته وأقداره كلها، يقينا منه بقدرته وحكمته وعلمه بما يحتاج عبده، وعلمه أيضا بما يصلحه، والتوكل هو الذي يضم مجامع الإيمان والعبودية الصادقة لله.
المتوكل على الله يعلم علما يقينيا بأن الله عز وجل هو الرزاق ذو القوة المتين، ويعلم أنه المعطي والمانع، والقادر على كل شيء، ويعلم أنه الضار النافع، فيجمع أمره ويتوكل على الله.
وحسن التوكل هو سمة فارقة بين مفهوم التوكل ومفهوم التواكل، فالتوكل على الله يعني الأخذ بالأسباب والعمل بها وترك النتائج لله، والرضا بما يقدره على كل حال، ومن الأقوال الواردة في معنى التوكل وأهميته، ما ينسب إلى بن بطال أنه قال: (التوكل على الله هو الثقةُ بهِ، والاستسلامُ لأمرهِ، وإيقانُ العبدِ بأنَّ قضاءهُ عليهِ ماضٍ)، وقيل أيضا أن التوكل هو أن يوقن العبد تماما ان الله هو ثقته، وأنه هو المالك لتدبير أموره والعالم بها وأن أمر السماوات والأرضين وما بنهما من عوالم الجن والإنس والملائكة والحيوانات والجمادات بيده وحده، وأنه نعم المولى نعم الوكيل.
أما التواكل فهو تلك الحالة من العجز والكسل والتقاعس عن بذل الجهد، والامتناع عن القيام بالعمل، وعدم الأخذ بالأسباب مع وجود حالة من الترجي والترقب وتمني الرزق، فالمتواكلون يقضون أوقاتهم ويفنون زهرات أعمارهم في انتظار أن تمطرهم السماء ذهبا، أو يفاجئهم القدر بكنز يغير ملامح واقعهم، ويظلون على هذا الحال يترقبون الفرص التي تأتيهم على طبق من ذهب حتى تُسرق أعمارهم وتضيع هباءا دون أن تأتي تلك الفرص.
حض القرآن الكريم والسنة النبوية على حسن التوكل على الله عز وجل
نظرا لأهمية التووكل لتمام الإيمان فقد حثت عليه الشريعة الإسلامية في الكتاب والسنة، ودعت عليه وبينت فضله على العبد وعلى سائر أمور حياته، ومن ذلك قوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، وهنا ربط واضح بين الإيمان بالله وحسن التوكل عليه، فالمؤمن الحق يسلم أمره لله، متوكلا عليه واثقا في رحمته، وراضيا كل الرضا عن جميع قضاء الله وجميع قدره.
وقد ورد لفظ التوكل ومشتقاته في عدة مواضع، ومنها قوله عز وجل: (ۚ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا )، كما ورد لفظ الوكيل في مواضع كثيرة أيضا، والوكيل اسم من أسماء الله الحسنى، ومعنى الوكيل هو الكفيل أو المتكفل بأمور العباد وأرزاقهم وأقدارهم، الراعي لمصالحهم ، والعالم بها وهو من يعتمد عليه في تصريف المقادير وفقا لما تقتضيه إرادته وعلمه وحكمته جل وعلا.
ومن الأحاديث النبوية التي حضت على التوكل على الله ودعت إليه ما جاء عن النبي –صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: (لو أنكم تتوكّلونَ على اللهِ حقَّ توكلهِ، لرزقكُم كما يرزقُ الطيرُ، تغدُو خماصًا، وتروحُ بطانا)، وهذا حاصل معنى التوكل وفضله، فالمتوكل على الله يعلم علم اليقين أن رزقه يسعى إليه كما يسعى هو إلى رزقه.
ثمرات التوكل على الله
ثمرات التوكل على الله عظيمة وفوائده كبيرة، ومنها أن حسن التوكل على الله يجلب الرزق وييسره، وأن التوكل على الله يورث القلب راحة وطمأنينة ويعفيه من هموم التفكير، والانشغال بالتدبير، والقلق بشأن الرزق ، ومن الأثار الدالة على ذلك قول الحسن البصري -رضي الله عنه-: (علمت أن رزقي لا يأخذه غيرى فاطمأن قلبي)، ومنها كذلك أنه يجلب محبة الله للعبد، فالله عز وجل يحب المتوكلين عليه حق التوكل، ومنها أن التوكل هو جماع الإيمان فمن حصله فقد حصل جماع الخير.