لعلنا جميعًا معشَر المسلمين نحفَظ حديث إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، منذ صغرنا ونعومة أظافرنا؛ فقد سمعناه في الإذاعة المدرسيَّة ومن الشيوخ والآباء والمدرسين، وغيرهم.. لكن؛ هل فعلا نحن نعمل بهذا الحديث ونسعى لجني كل الفوائِد التي أتي بها، وجعلنا منه دروسًا ومواعِظ في كافَّة حياتنا؟
إخواني؛ أخلصوا في أعمالكم، تفلحوا في حالكم ومآلكم، فقد قال -تعالى- في سورة النحل {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
صحة حديث إنما الأعمال بالنيات
قال النبي ﷺ في الحديث الشريف {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه}.
وفي لفظٍ آخر في صحيح البخاري {الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه}.
إخلاص النية
إن إخلاص النية لله تبارك وتعالى من أجل الأعمال التي لا ينبغي للمؤمن أن يغفل عنها، بل إنه أجلها؛ لأن قبول العمل متوقف عليها، ولا يمكن لعمل أن يرفع وقد أشرك فيه فاعله أحدا مع الله؛ وقد قال -سبحانه- في سورة الكهف {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}.
وقد شبه الله جل جلاله حال المنفقين لغير الله بصخرة عليها تراب، وقد كان الزارع يظن أنها أرض صالحة للزرع؛ فنثر عليها بذوره طلبا لزكاء الزرع، فلما نزل المطر ذهب بذلك التراب كله ولم يبق له أثر، وذهبت تلك البذور ولم يكن إنبات؛ واقرأ من سورة الكهف -أيضا- {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا}.
فذلك حال العمل الذي لم يكن لله، ذهب أدراج الرياح فكان هباء منثورا، وذلك هو حال كل عمل لا يريد به صاحبه ما عند الله.
القرآن الكريم يُحَذِّر من الرياء
وبجانب حديث إنما الأعمال بالنيات -أيضًا- نادى الله المؤمنين محذرا لهم من الوقوع في شراك الرياء فقال سبحانه وتعالى في سورة البقرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.
أخي المسلم، قد نبهنا القرآن الكريم في هاتين الآيتين الكريمتين: آية سورة البقرة وآية سورة الكهف، أن العمل لغير الله ليس من خلق من يؤمن بالله واليوم الآخر، ولو كان هناك إيمان بالله وباليوم الآخر لكان هناك إخلاص لله، وطلب لما عند الله؛ وهو -سبحانه- القائل في سورة القصص {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ونبهنا القرآن العظيم أن أمثال هؤلاء قد ينظر الناس إليهم أنهم ذوو عمل كثير، وهم لا يدرون أن عملهم لم يكن لله؛ فوفد المراؤون على الله وليس في سجلاتهم شيء من حسنات تلك الأعمال، وقد أخذوا الذي طلبوه من السمعة والوجاهة والظهور في الدنيا؛ فيقال للواحد منهم: «إنما تصدقت ليقال كريم، ألا فقد قيل».
إيَّاك ورئاء الناس
وقد ختمت آية البقرة- أيها المؤمنون- بقوله تعالى، في سورة البقرة {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} تنبيها للذين آمنوا أن العمل رئاء الناس من خلق الكافرين الذميم؛ لأنهم لا يريدون بعملهم ما عند الله، بل يريدون الحياة الدنيا وزينتها؛ فليس لهم أجر على أعمالهم في الآخرة، وقد أخذوا ما طلبوه في الدنيا؛ واقرأ قول الحق -تبارك وتعالى- في سورة هود {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ}.
فإن كانت أعمال المرائين كـ {صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا}، فإن أعمال الكافرين {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ}، وأولئك {لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ} وهؤلاء {لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ} فكلا الفريقين لا يجد ثوابا لعمله، ويفد على الله العزيز الحكيم صفر اليدين {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}.
وإن من أبين القول على عدم قبول عمل المرائين، ولو كان فيه ذرة رياء، ذلك الحديث القدسي الجامع؛ فإن الله تبارك وتعالى يقول فيه: «من عمل عملا أشرك فيه غيري فهو له كله، وأنا أغنى الشركاء عن الشرك».
الشرك الخفي
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- شديد التحذير لأمته من مرض الرياء الذي سماه الشرك الخفي، وعلمهم أن يتعهدوا أعمالهم بتنقيتها، وأنفسهم بتزكيتها؛ فيقولوا: «اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه»، فأولئك {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}.
,اعلموا إخواني أن الذين يخلصون أعمالهم لله، يجدون بركة أعمالهم في الدنيا، وثوابها الجزيل في الآخرة {فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} وقد ذكر الله من أمرهم عجبا عجابا؛ فإن مبتغاهم مرضاة الله، ونفوسهم ثابتة أي ثبات، بل إن مصدر الثبات أنفسهم، وما كان ذلك إلا من شدة اليقين وثبات الإيمان؛ فأيقنوا بوعد الله تمام اليقين {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} ورجوا لقاء الله وأحبوه؛ فأحب الله لقاءهم {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
جزاء الإخلاص والمخلصين
ولله ذلك التشبيه البديع لأعمالهم المخلصة بجنة بمكان مرتفع من الأرض، ذات تربة صالحة نثرت عليها البذور، فلما نزل الغيث اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج؛ فكانوا على خلاف الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس.
وقد قال الله تبارك وتعالى فيهم {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وذلك شأنهم في كل عمل، يخلصون فيه النية، ويجعلونه كله لله {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
هذا ما كان لدينا -في هذه الصَّفحة- عن حديث إنما الأعمال بالنيات وما يدور حوله من مواعِظ ودروس وفوائِد؛ فانتظرونا بالمزيد -إن شاء الله-.