هنا نوفر لكم نَصّ خطبة الجمعة القادمة بعنوان: تقدير المصلحة وتنظيم المباح. والتي حدّدتها وزارة الأوقاف المصرية ليوم الجمعة الموافق ١١ من سبتمبر من عام ٢٠٢٠ ميلاديَّة. و ٢٣ من محرَّم من عام ١٤٤٢ هجريَّة.
تقدير المصلحة وتنظيم المباح
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه الكريم: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، القائل في حديثه الشريف: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).
وبعد:
فإن المتأمِّل في أحكام الشريعة الإسلامية يجد أنها جاءت لتحقيق مصالح البلاد والعباد، والسّمو بالنفس البشرية، والارتقاء بها إلى أعلى الدرجات، لذلك لم تأت الأحكام كلها ثابتة مستقرة، بل كان منها ما هو ثابت مستمر ومنها ما هو متغير يختلف باختلاف الزمان والمكان والأعراف والأحوال والحاجة ودفع الضرر والمشقة، فأحكام الشريعة تدور مع المصلحة وجودا وعدما؛ وحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله سبحانه وتعالي.
ولقد أقامت الشريعة الإسلامية نظاما متوازنا، يراعي بين المصلحة العامة والمصلحة الفردية، بما يحقق صالح الوطن وصالح أبنائه جميعا، فتتحقق للمجتمع قوة البنيان الواحد، وشعور الجسد الواحد الذي حث عليه نبينا (صلي الله عليه وسلم) في قوله: (المؤمن للمؤمن كالبيان، يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه).
ومن المقرر شرعًا وعقلا أن ما يحقق النفع العام للبلاد والعباد مقدم على ما يحقق النفع الخاص لشخص بعينه، أو مجموعة من الأشخاص، وأنه إذا تعارضت المصلحة العامة مع المصلحة الخاصة قدمت المصلحة العامة على الخاصة؛ ذلك أن المصلحة العامة تشمل كل ما يحقق إقامة الحياة من أمور مادية، ومعنوية، تجلب الخير والنفع للناس، وتدفع عنهم الشر والمفاسد، وتحقق حماية الوطن واستقراره وسلامة أراضيه؛ فالشرع إنما جاء ليحفظ على الناس دينهم، ووطنهم، وأنفسهم، وعقولهم، وأنسابهم، وأموالهم؛ لذا قرر الفقهاء أن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام، وأنه إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما.
على أننا نؤكد أن تقدير المصلحة المعتبرة مسئولية ولي الأمر؛ ذلك أنه أعلم بالمصلحة العامة، وأكثر إلماما بجوانب الأمور وما يترتب عليها من تبعات، لذا يقول الحق سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.
إن احترام النظام والحفاظ عليه مبدأ أصيل من مبادئ الشريعة الإسلامية؛ إذ لابد لكل فئة تتعايش في مجتمع واحد من القوانين التي تنظم للناس أمور حياتهم.
ومن أهم ما يجب تنظيمه في المجتمع: الأمور المباحة؛ لأن بعض الناس قد يتجاوز في استخدام المباح، فيتحول الأمر بسوء استخدامه من الإباحة إلى الحرمة، يقول سبحانه: {وكلوا واشربوا ولا شرفوا إنه لا يحب المسرفين}، ويقول تعالى: {ولا تبذر تبذيرا * إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان له كفورا}، فالخروج بالإنفاق إلى حد السفه والتبذير يخرج به من الحل إلى الحرمة؛ فلولي الأمر أن يقنن المباح أو يقيده، بل عليه أن ينظمه أو ينيب من ينظمه من أصحاب الولايات الخاصة التي تنبثق من الولاية العامة، كل حسب اختصاصه؛ لأن دنيا الناس لا تصلح بدون قانون ولا نظام، وإلا لصارت الدنيا إلى عشوائية مقيتة، وفوضى تضر ولا تنفع، ومن ذلك على سبيل المثال: حق الطريق الذي يعد كف الأذى عنه شعبة من شعب الإيمان، ولأجل تنظيم المباح شرع الحجر على السفيه والمبذر في الفقه الإسلامي.
ومما لا شك فيه أن تنظيم المباح بما يتناسب مع تحقيق النفع العام فيه درء للمفاسد، وجلب للمصالح؛ إذ لا مفسدة أشد من الإضرار بحياة الناس، والأولوية لإزالة كل ما يشكل خطرا على الحياة، ثم لما يحقق مصالح الناس، ويجب على كل الناس أن يتعاونوا في ذلك؛ لأن الثمار يحصدها المجتمع كله.
والضرر – لا قدر الله – يقع على المجتمع كله، وقد بين ذلك نبينا (صلى الله عليه وسلم) في قوله: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أشغلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا).
اللهم احفظ بلادنا من كل مكروه وسوء، وسائر بلاد العالمين