سنقوم اليوم بطرح تعريف البيع في اصطلاح الفقهاء. حيثُ يقصد من تعريف الشيء إيضاحه، وبيان حقيقته لغوية كانت، أو شرعية ولكن الشيء إذا كان معروفًا، ومما يعلم بالضرورة كان تعريفه سببًا في غموضه بدلًا من إيضاحه، فلو أن أحدًا جاء ليعرف لنا الماء، لكان تعريفه سببًا في إبهامه، فالشيء المعروف، لا يعرف.
ولهذا قال بعض المالكية: معرفة حقيقة البيع ضرورية حتى للصبيان.
ورد ذلك ابن عرفة، بأن المعلوم ضرورة وجوده عند وقوعه، لكثرة تكراره، ولا يلزم منه علم حقيقته.
تعريف الحنفية للبيع
عرفه ابن نجيم بأنه: مبادلة المال بالمال بالتراضي … زاد بعضهم على جهة التمليك وقيل: لا حاجة إلى الزيادة; لأن المبادلة تدل عليه.
وفي درر الحكام شرح غرر الأحكام: «مبادلة مال بطريق الاكتساب، أي التجارة، خرج به مبادلة رجلين بمالهما بطريق التبرع، أو الهبة بشرط العوض، فإنه ليس ببيع ابتداء، وإن كان في حكمه بقاء، ولم يقل: على سبيل التراضي ليتناول بيع المكره، فإنه بيع منعقد، وإن لم يلزم».
تعريف المالكية
عرفه بعضهم: بأنه نقل الملك بعوض.
فقوله: نقل الملك خرج بذلك العقد الباطل، فإنه لا ينقل الملك.
وقوله: بعوض، خرج به الهبة، والصدقة، فإن فيها تنقل الملكية ولكن بدون عوض.
وفي الشرح الصغير: عقد معاوضة على غير منافع.
خرج بقيد المعاوضة: الهبة والوصية.
وقوله: معاوضة: مفاعلة؛ إذ كل من البائع، والمشتري عوَّض صاحبه شيئًا بدل ما أخذه منه.
وقوله: «على غير منافع» خرج النكاح، والإجارة، قال: وهذا تعريف للبيع بالمعنى الأعم: أي الشامل للسلم، والصرف، والمراطلة (بيع ذهب بذهب بالميزان) وهبة الثواب.
تعريف الشافعية
جاء في المجموع: «مقابلة المال بمال، أو نحوه تمليكًا».
وفي مغني المحتاج: «عقد معاوضة مالية يفيد ملك عين، أو منفعة على التأبيد … فدخل بيع حق الممر ونحوه، وخرجت الإجارة بقيد التأقيت؛ فإنها ليست بيعًا».
فقوله (عقد معاوضة) أخرج العقود الأخرى التي لم تعقد للمعاوضة، كعقود التبرع مثلًا.
وقوله: (مالية) أخرج النكاح؛ فإنه وإن كان فيه عقد معاوضة، ولكنه ليس عقدًا ماليًا من الطرفين.
وقوله (يفيد ملك عين) أخرج العقود التي لا تفيد الملك، كالعارية، والرهن.
وقوله: (أو منفعة على التأبيد) أخرج الإجارة؛ فإنها عقد يقصد بها ملك المنفعة لمدة معينة.
ويدخل في هذا الحد الربا، فإنه معاوضة مالية تفيد ملك العين على التأبيد، وهو ليس بيعًا كما قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: ٢٧٥].
ويدخل في الحد القرض، فإنه عقد معاوضة مالية على وجه التأبيد، وليس هو مع ذلك بيعًا.
تعريف الحنابلة
عرفه بعضهم بأنه: مبادلة مال، ولو في الذمة، أو منفعة مباحة كممر في دار بمثل أحدهما على التأبيد، غير ربا وقرض.
وارتضى هذا التعريف المرداوي في كتاب الإنصاف.
فقوله: (مبادلة مال … أو منفعة) .. كأنه أخرج المنفعة من المالية، وبعض الحنابلة يذهب إلى هذا، ولذلك يعرفون المال: بأنه عين مباحة النفع بلا حاجة، فقوله: (عين) أخرج المنفعة، وهذا خلاف المذهب، أعني عدم اعتبار المنفعة مالًا، وهي مسألة خلافيه، وسيأتي إن شاء الله تحريرها عند الكلام على تعريف المال لدى الفقهاء.
وقوله (ولو في الذمة) أدخل بيع الموصوف، كبيع ثوب صفته كذا وكذا، فإن البيع لا يتعلق بثوب بعينه، وإنما الواجب تعلق بذمته، فتكون مشغولة بأداء الموصوف، وذلك كبيع السلم مثلًا، وهذا لا بد أن يكون مما ينضبط بالصفة، وسيأتي إن شاء الله تحرير ما يجوز بيعه بالوصف.
(بمثل أحدهما) شمل هذا الكلام صورًا من البيع:
الصورة الأولى: أن يبيعه عينًا بثمن، وهو البيع المشهور، وهو أن يكون المبيع من العروض، والعوض من الأثمان، كبيع السيارة بدارهم.
الصورة الثانية: بيع المقايضة. وله ثلاثة أنواع:
- الأول: مقايضة عين بعين، كأن يبيع سيارته مثلًا ببيته.
- الثاني: مقايضة منفعة بمنفعة، كأن يبيع عليه حق الانتفاع بممر في أرضه بمثله من الجهة الأخرى.
- الثالث: مقايضة عين بمنفعة، وذلك أن يعطيه عروضًا مقابل الانتفاع بممر في أرضه.
الصورة الثالثة: بيع الصرف. وهو بيع ثمن بثمن، وذلك كبيع الدولار بالريال، أو بالدينار.
الصورة الرابعة: بيع السلم. أن يبيعه دينًا، والعوض مقدم في مجلس العقد، وهو نوعان:
- النوع الأول: دين بعين.
- النوع الثاني: دين بثمن.
الصورة الخامسة: بيع المرابحة. عكس السلم، وهو أن يبيعه عينًا حالة بدين.
الصورة السادسة: الإجارة. أن يبيعه منفعة مؤقتة بعين، أو ثمن.
فهذه تسع صور أو أكثر لأنواع من البيوع، وكلها داخلة في مسمى البيع في معناه الأعم، وإن كان بعض المذاهب لا يرى الإجارة بيعًا، وسيأتينا إن شاء الله تعالى في كتاب الإجارة بيان هذا الخلاف، وهل هو خلاف اصطلاحي باعتبار أن البيع على التأبيد، والإجارة ليس فيها تأبيد، وإنما هي مؤقتة؟ وهذا في الحقيقة لا يخرجها عن مسمى البيع، فهي من باب بيع المنفعة بيعًا مؤقتًا، نعم اختلاف الاسم يعني اختلاف بعض الأحكام عن البيع المطلق، ولذلك فالصرف وإن كان بيعًا، إلا أن له أحكامًا خاصة من وجوب القبض في مجلس العقد، ومن وجوب التماثل مع اتحاد الجنس، وهذا لا يجب في غير مبادلة الربوي بالربوي، وكذلك الإجارة فإنها تختص ببعض الأحكام التي تخالف فيها البيع المطلق، وليس هذا مكان التعرض لها.
هذه صور البيع، وكل هذه الصور سوف تأخذ نصيبها إن شاء الله تعالى من البحث، والدراسة، أعاننا الله على ذلك بمنه وكرمه، ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى.
وقوله (على التأبيد) أخرج الإجارة، فإن الإجارة لا تسمى في مذهب الحنابلة بيعًا، وقد أشرنا إلى الخلاف فيها.
(غير ربا، وقرض) الربا مبادلة مال بمال، ومع ذلك لا يسمى بيعًا، لقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: ٢٧٥].
فأحل الله البيع، وحرم الربا، فلم يدخل في مسمى البيع، وإلا لكان حلالًا.
وكذلك القرض، وإن كان في صورته مبادلة مال بمثله على سبيل التملك، إلا أنه ليس بيعًا؛ لأنه لم يقصد به المعاوضة، وإنما قصد به الإرفاق، ولو كان القصد منه المعاوضة لحرم ذلك؛ لأنه مبادلة درهم بدرهم يشترط فيه التقابض، فلما جاز التفرق مع عدم القبض خرج ذلك عن صورة البيع.
وهذا التعريف ربما كان من أشمل التعريفات السابقة، والله أعلم.
وكل هذه التعريفات تدور على حقيقة واحدة: وهي أن البيع مبادلة مال بمال، أما كون المال أعيانًا، أو منافع، وهذه الأشياء قد تتعلق بالذمة وقد تتعلق بذات معينة، فكلها أقسام للمال لا حاجة إلى ذكرها في التعريف، لأن التعريف يقتصر فيه على الماهية.
وهنا أمر يحسن التنبيه إليه، فهناك من يقسم المال إلى ثلاثة أقسام: أعيان، ومنافع، وديون.
والحق أن الدين وصف للمال، وليس هو المال، فالمال إما ذات أو عرض (منفعة)، وكلاهما قد يكون دينًا وقد يكون معينًا.
فالمال يكون ذاتًا كالبر مثلًا إن كان قائمًا فهو معين، وإن كان موصوفًا من غير تعيين، متعلق بالذمة، فهو دين، وكلاهما يؤول إلى ذات وليس إلى عرض (منفعة).
والعرض (المنفعة) تكون دينًا ومعينة كالركوب، فإن كان من دابة معينة، فهي منفعة معينة، وإن كان من دابة موصوفة في الذمة فالمنفعة دين في الذمة، فتقسيم المال إلى ثلاثة أقسام عين ودين ومنفعة تقسيم غير دقيق، فالدين وصف للمال عينًا كان أو عرضًا، وكما تكون المنفعة عينًا ودينًا، يكون المال عينًا ودينًا، فالدين وصف يلحق الذوات كما يلحق المنافع.
ويمكن أن نخرج من هذه التعاريف بضابط أو قاعدة: إذا كان البيع مبادلة مال بمال، فإنه لا يصح بيع ما لا يعد مالًا بين الناس، ولا يصح الشراء به.
مُقترح: متى تخرج الزكاة ومن يستحقها؟
المصدر: المعاملات المالية أصالة ومعاصرة، للباحث في الفقه الإسلامي دبيان الدبيان.