الحمض النووي
هو تركيب حلزوني مزواج، ربما لم تدركوا مدى أهميته من مجرد النظر إليه، فهو أكثر الجزيئات تعقيداً في الوجود.
وقد يكون من أكثرها أهمية، ولشدة تعقيده تم التعرف على شكله قبل حوالي 60 سنة لا أكثر.
فهو في غاية التعقيد والتشابك، فإذا أخذت قطعة صغيرة منه من أحد الخلايا وحاولت تفكيكها فإنها ستكون أطول من طول رجل مثلاً.
ومع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك حوالي خمسين ترليون خلية في جسم الإنسان، فإذا تم أخذ الحمض النووي الموجود في كل الخلايا وصففناها بالتالي في خط مستقيم سيصل طولها إلى الشمس ولكن حوالي 600 مرة، أليس ذلك مدهشاً.
الحمض النووي منقوص الأكسجين
سنتحدث في هذا الموضوع عن الحمض النووي منقوص الأكسجين والمعروف بالحمض النووي DNA
DNA هو جزيء مسؤول عن تخزين المعلومات الوراثية؛ أي المعلومات التي تنظم كافة الأنشطة التي تقوم بها الخلايا.
وهو عبارة عن شفرة مكونة من ستة مليارات حرف تحمل جميع المعلومات التي تُحدد كل التفاصيل المتعلقة بأجسامنا.
وله نفس الوظيفة في جميع الكائنات الحية الأخرى.
إن كل خلية جسدية من خلايا الجسم الإنساني تمتلك 46 كروموسوم ويحتوي كل منها على جزيء واحد DNA
وهذه الكروموسومات تكون متراصة مع البروتينات في نواة الخلية، ويوجد نوعان من الأحماض النووية:
- الحمض النووي DNA.
- الحمض النووي الريبوزي RNA.
أنواع الجزيئات الحيوية
قد ذكرنا في موضوع الجزيئات الحيوية أن هناك ثلاثة جزيئات حيوية هامة؛ وهي:
- الكربوهيدرات.
- الدهون.
- البروتينات.
أما النوع الرابع من هذه الجزيئات الحيوية فهو الأحماض النووية، ووظيفتها هي الأكثر تعقيداً من بين كل هذه الجزيئات.
ومن حيث التركيب فهي عبارة عن بوليميرات مما يعني أنها تتكون من وحدات جزيئية مكررة، وتسمى هذه الوحدات الصغيرة في DNA بـ نيوكليوتيدات، وتسمى مجموعة نيوكليوتيدات المتصلة مع بعضها البعض عديدات النيوكليوتيد.
تركيب النيوكليوتيدات
يتكون كل نيوكليوتيد من ثلاثة تراكيب وهي:
- أولاً: جزيء سكر خماسي الكربون.
- ثانياً: مجموعة فوسفات.
- ثالثاً: واحد من أربع قواعد نيتروجينية.
المكون الأول للحمض النووي DNA هو جزيء سكر المُسمى بـ الرايبوز منقوص الأكسجين.
ولكن المكون الأهم الذي يحمل الشفرات الجينية المسؤولة عن تحديد كافة تفاصيل الجسم هي هذه القواعد النيتروجينية الأربعة:
- الأدنين.
- الثايمين.
- السايتوسين.
- الغوانين.
وتجدر الإشارة؛ إلى أن الحمض النووي في الكائنات الحية لا يوجد كجزيء عديد النيوكليوتيد واحد بل على شكل زوج من الجزيئات المتصلة مع بعضها بإحكام.
ويشبه شكلها شكل السلم اللولبي المزدوج، أو مجرد سلم ملتويٍ، وعرف هذا الشكل باستخدام التركيب الحلزوني المزدوج.
ومثل أي تركيب فالحمض النووي يحتاج إلى بنية دعم رئيسية، لذا يرتبط السكر والفوسفات معاً لتكوين هذه الركائز الأساسية المزدوجة في الحمض النووي.
تمتد سلاسل السكر والفوسفات هذه على كلا جانبي التركيب اللولبي. ولكن باتجاهين متعاكسين، فعند النظر إلى سلسلتي السكر والفوسفات الأساسيتين ستلاحظون أن إحداهما معاكس لاتجاه الأخرى؛ حيث تبدأ أحد هاتين السلسلتين بالفوسفات المرتبط بذرة الكربون رقم 5 من جزيء السكر.
كما يرتبط الفوسفات التالي بالجهة الحرة من جزيء السكر عند ذرة الكربون رقم ثلاثة، مما يشكل نمطاً ذات الاتجاه 5 – إلى 3 -.
وتذكروا أنه عندما نتحدث عن السكر فإننا نتحدث عن الرايبوز منقوص الأكسجين. ولاحظوا أن ذرة الأكسجين في هذه السلسلة تكون في الأعلى، أما في السلسلة المقابلة فالعكس صحيح، وتكون في الأسفل.
فتبدأ هذه السلسلة بالجهة الحرة من السكر عند ذرة الكربون رقم 3 ويرتبط الفوسفات بالسكر من جهة ذرة الكربون رقم 5. وفي هذه السلسلة يتشكل نمط نفس الاتجاه 5- إلى 3-
ما هي طريقة ارتباط السلاسل اللولبية المزدوجة ببعضها؟
ترتبط هاتان السلسلتان معاً بقواعد نيتروجينية من خلال روابط هيدروجينية ضعيفة نسبياً، ولكن لا يمكن لأي زوج من القواعد النيتروجينية الارتباط مع بعضها بشكل عشوائي.
ومن السهل تذكر هذه أزواج؛ فإذا كان لأحد النيوكليوتيدات قاعدة أدنين فلن يرتبط بها إلى ثايمين، أما الجوانين فلا يمكنه الارتباط إلا مع سايتوسين وتُسمى هذه القواعد النيتروجينية المرتبطة ببعضها البعض بـ الأزواج القاعدية.
تسلسل القواعد النيتروجينية
زوج الجوانين والسايتوسين يمتلك ثلاث روابط هيدروجينية مما يجعله أقوى بقليل من زوج الأدينوسينين الذي يمتلك رابطتين هيدروجينيتين فقط.
إن ترتيب هذه القواعد النووية الأربعة وتسلسلها هو الذي يسمح للحمض النووي بتكوين الجسم.
فعلى سبيل المثال؛ تسلسل هذه القواعد على النحو الآتي: AGGTCCATG يختلف تماماً عن تسلسل TTCAGTCG الكروموسوم البشري رقم واحدة الذي يُعد أكبر كروموسوم في جسم الإنسان يحتوي على DNA يتألف من 247 مليون زوج قاعدي.
إذا طُبعت أحرف الكروموسوم واحد في كتاب فسيكون طوله 200000 صفحة، وكل خلية من الخلايا الجسدية عند الإنسان تحتوي على 46 جزيء DNA موجودة في نواتها؛ أي جزيء واحد لكل كروموسوم وعند جمع 46 جزيء معاً سيكون الناتج 6 مليارات زوج قاعدي في كل خلية.
فهذا أطول كتاب تقرأه في حياتك، وهو يتألف من حوالي 1000 صفحة إذا حاول ملأه بتسلسل الحمض النووي.
وستحتاج إلى حوالي 10 آلاف كتاب ليكفي الجينوم البشري بأكمله.
ونستخلص مما سبق أن قاعدة نيتروجينية لها نظير واحد فقط، لذلك يمكن استخدام تسلسل قاعدي في أحد السلاسل لمعرفة التسلل القاعدي للسلسلة المقابلة.
هل يتشابه تسلسل القواعد النيتروجينية للـ DNA مع الحمض النووي RNA؟
الإجابة؛ هي لا، فصحيح أن الحمض النووي RNA مُشابه للحمض النووي DNA فهو يمتلك كذلك سلسلة من السكر والفوسفات مرتبطة بقواعد نيتروجينية.
لكن هناك 3 اختلافات أساسية:
- أولاً: يتكون RNA من سلسلة واحدة وليس اثنتان.
- ثانياً: السكر الموجود في RNA هو الرايبوز يمتلك ذرة أكسجين إضافية بدلاً من سكر الرايبوز المنقوص الأكسجين في DNA ، ومن هنا جاء الاختلاف في التسمية ما بين الحمض النووي الريبوزي RNA والحمض النووي منقوص الأكسجين DNA.
- ثالثاً وأخيراً: أن RNA يحتوي على ترايمين، فالقاعدة النيتروجينية الرابعة هي اليوراسيل Uracil الذي يرتبط مع الأدينين.
يلعب RNA دوراً هاماً في إنتاج البروتين، كما أنه يلعب كذلك دوراً هاماً في تضاعف الـ DNA.
واقرأ هنا عن الشبكة الإندوبلازمية وجهاز جولجي.. وعملية انتقال الحمض النووي
جيمس واتسون وفرنسيس كريك
عند الحديث عن شيء بدرجة تعقيد الحمض النووي DNA فمن المنطقي أن تتسألوا عن العلماء الذين ساهموا باكتشافه وكم كان مستوى ذكائهم.
تطلب اكتشاف DNA جهوداً علماء عدة من عدة دول، واستغرق الأمر حوالي مئة سنة.
عندما يتم طرح سؤال من اكتشف DNA تكون عادة الإجابة؛ جيمس واتسون وفرنسيس كريك ولكنهم في الحقيقة لم يكتشفا الحمض النووي DNA ولم يكتشفا أنه يحتوي على معلومات وراثية.
فريدريك ميسشر
تم اكتشاف الحمض النووي DNA في عام 1869 ومكتشفه هو عالم بيولوجي سويسري يُدعى فريدريك ميسشر Friedrich Miescher الذي اهتم بدراسة خلايا الدم البيضاء.
وكان ميسشر يحصل على هذه الخلايا بأسوأ طريقة ممكنة؛ حيث كان يجمع الضمادات المستعملة بالمستشفى القريبة منه. فهو كان مستعد للتضحية من أجل العلم.
غمر ميسشر هذه الضمادات بالكحول الدافىء ليتخلص من الدهون ثم أضاف إليها الإنزيمات لهضم البروتينات، وما تبقى بعد ذلك هي مادة مُخاطية رمادية اللون.
وأدرك حينها أن هذه المادة هي مادة بيولوجية جديدة، وأطلق عليها اسم nuclein والذي يُعرف حالياً بـ الحمض النووي.
ولكن ميسشر لم يكن يعرف ما هو دور هذه المادة؟ أو ما هو تركيبها؟
روزاليند فرانكلين
هي العالمة التي ساعدت في اكتشاف DNA، وهي عالمة فيزياء حيوية من لندن، واكتشفت أن المادة التي اكتشفها ميسشر هي الـ DNA بعد حوالي مئة سنة باستخدام تقنية تُسمى “حيود الأشعة السينية”.
ورُغم كانت فرانكلين أول من أثبت أن الحمض النووي له تركيب حلزوني. كما اكتشفت وجود سلاسل السكر والفوسفات في التركيب الخارجي.
لماذا لا يُعد اسم روزاليند فرانكلين اسماً معروفاً؟
هناك سببان:
- أولاً: على عكس واتسون وكريك فإن فرانكلين لم يكن لديها مانع في مشاركة منافسيها بالمعلومات التي توصلت لها، فهي من أخبر واتسون وكريك أن النظرية السابقة التي فرضت وجود التركيب الحلزوني الثلاثي للـ DNA لم تكن ممكنة.
وبهذا أشارت فرانكلين أن الحمض النووي له تركيب حلزوني مزدوج، وبعد ذلك تم عرض أدلتها التي أثبتت البنية الحلزونية للحمض النووي على واتسون دون علمها.
نشرت فرانكلين ما توصلت إليه في مجلة “نيتشر Nature” ولكنها تأخرت في ذلك حيث سبقها واتسون وكريك في نشر بحثين عن الموضوع دون الاعتراف بمساهمتها بشكل واضح.
- ثانياً: هو أن لجنة جائزة نوبل لم تقر بمساهمتها، ومنحت الجائزة لـ واتسون وكريك في عام 1962 لأن فرانكلين كانت متوفى.
والأمر المحزن هو أن تجاربها العلمية قد تكون هي التي أدت لوفاتها المُبكرة وهي بعمر 37 نتيجة لإصابتها بسرطان المبيض.
وذلك لأنه في ذلك الوقت كان تقنية حيود الأشعة السينية التي كانت تُستخدم لتصوير الحمض النووي تتطلب كميات خطيرة من التعرض للإشعاع. ونادراً ما كانت فرانكلن تأخذ احتياطاتها لحماية نفسها من هذه الأشعة، ولا تُمنح جائزة نوبل لأحد بعد وفاته.
ويعتقد الكثير أنها لو كانت على قيد الحياة لحصلت على جائزة نوبل بالتشارك مع كل من واتسون وكريك.
آلية تضاعف الحمض النووي
تنقسم الخلايا باستمرار مما يعني أن الخلايا الناتجة ستحتاج إلى نسخة كاملة من معلومات الحمض النووي، وتبين أن خلايا الجسم فعالة جداً في هذه العملية.
فيمكن لخلايانا صُنع 10000 نسخة من كتاب خلال ساعات قليلة، وتُسمى هذه العملية تضاعف الحمض النووي.
كل خلية من خلايا الجسم تحتوي على نسخة من نفس الحمض النووي، وكل هذه النسخ بدأت من نسخة أصلية وتضاعفت مليونات المرات على مدار حياة الفرد، وفي كل مرة تتضاعف باستخدام نصف الحمض النووي الأصلي كقالب لبناء جزيء جديد.
الهيليكيز Helicaseٍْ هو من أهم الأنزيمات في الجسم؛ حيث يقوم بفصل سلسلتي الحمض النووي بسرعة فائقة من خلال كسر الروابط الهيدروجينية الضعيفة الموجودة بين الأزواج القاعدية.
وتسمى النقطة التي يبدأ عندها فصل السلسلتين باسم “شوكة التضاعف Replication Fork” وتُسمى السلسلة العُليا باسم “السلسلة المتقدمة” أما السلسلة السُفلية وتسمى “السلسلة المتأخرة” وتضاعفها أكثر تعقيداً من السلسلة المتقدمة.
ويمكن أن تستخدم كل من هاتين السلسلتين المنفصلتين كقالب لتكوين سلسلتين تكمليتين من الحمض التسيران في اتجاهين متعاكسين من حيث التركيب الكيميائي؛ فهذا يعني أن صنع سلسلة حمض جديدة من السلسلة المتقدمة سيكون أسهل بكثير من صنعها من السلسلة المتأخرة.
في السلسلة المتقدمة يقوم إنزيم بوليميراز DNA بأضافة النيوكليوتيدات المناسبة على السلسلة امتداداً إلى نهاية الجزيء.
ولكن قبل أن يقوم بذلك فإنه يحتاج إلى مجموعة من النيوكليوتيدات لتكملة السلسلة التي تم فصلها، ويبدأ الإنزيم عمله من بداية جزيء الحمض النووي.
ولكن إنزيم بوليميراز DNA يحتاج لتحفيز بسيط كي يتصل بطرف السلسلة وليبدأ بتكوين سلسلة جديدة من DNA.
يتكفل إنزيم RNA برايميز بالقيام بها التحفيز، وتحتاج له السلسلة المتقدمة مرة واحدة في البداية.
ثم يتمكن إنزيم بوليميراز DNA من إكمال العملية على طول السلسلة المتقدمة.
ويُضيف نيوكليودات باستمرار حتى يصل إلى نهاية الجزيء. أما بالنسبة لتضاعف السلسلة المتأخرة فالعملية أكثر تعقيداً؛ وذلك لأن إنزيم بوليميراز DNA يمكنه فقط مضاعفة السلسلة باتجاه 5- إلى 3- ولكن السلسلة المتأخرة فهي ذات اتجاه معاكس أي؛ 3- إلى 5- لذلك فإن إنزيم بوليميراز DNA لا يمكنه إضافة نيوكليوتيدات جديدة إلا على نهاية الحرة 3-
إنزيم RNA برايميز
وبما أن السلسلة المتأخرة تكون معاكسة للسلسة الأخرى فلا يُمكن مضاعفتها إلا بطريقة غير مستمرة أو متقطعة.
وهنا يأتي دور إنزيم RNA برايميز مجدداً حيث يضيف عدد قليل من بوادئ RNA مما يعطي لإنزيم بوليميراز DNA نقطة البداية ليكمل عمله بالاتجاه المعاكس على امتداد السلسلة.
وتتم هذه العملية من خلال إضافة RNA برايميز للعديد من القطع المنفصلة. يتراوح طول كل منها من 1000 إلى 2000 زوج قاعدي، وتسمى هذه القطع بـ قطع أوكازاكي Okazaki fragments نسبة لمكتشفي هذه الخطوة من العملية في الستينات ما عالمان متزوجان لذلك أطلق على هذه القطع اسم أوكازاكي، وليس اسم عالمين مختلفين.
تسمع هذه القطع بتكوين السلاسل في دفعة صغيرة، وبعد ذلك يقوم نوع آخر من إنزيم بوليميراز DNA باستبدال بوادئ RNA.
وندعوك لتقرأ هنا عن: علم الوراثة.. التطور والجينات
إنزيم الليغاز
وأخيرا يقوم إنزيم رابط يسمى “إنزيم الليغاز” بربط جميع القطع الصغيرة ببعضها.
وبهذا نكون وضحنا لكم سبب تعقيد عملية تضاعف السلسلة المتأخرة.
عند تضاعف الحمض النووي DNA قد يحصل خطأ مرة كل 10 مليارات نيوكليوتيد، وبالتالي؛ يجب أن يمتلك الجسم آلية تساعده في حل هذه المشكلة. من وظائف إنزيم بوليميراز DNA تصحيح هذه الأخطاء حيث يمكنه إزالة النيوكليوتيد من نهاية السلسلة.
عند اكتشاف وجوده لوجود ترتيب غير صحيح للأزواج القاعدية، لأنه كما ذكرنا يجب أن ترتبط هذه الأزواج بترتيب محدد.
ونظراً للتركيب المعقد للـ DNA الموجود داخل خلايا الجسم فمن المدهش أن تكون نسبة الأخطاء قليلة لهذه الدرجة.
وتذكروا أننا نتحدث عن جزيئات تحتوي على ملايين الأميال من المعلومات الوراثية في داخلها، ولهذا السبب فإن العلماء لا يبالغون حين يقولون: “إن الحمض النووي هو أعظم جزيء على الإطلاق”.