بيعة العقبة الكبرى أقل شهرة من غزوة بدر. لكنها أقرب لقلب النبي ﷺ وصحابته -رضي الله عنهم- لما كان لها من أثر على غزوة بدر والهجرة وفتح مكة فيما بعد. وفي مسيرتنا لصناعة الحياة نجد أن هناك دروسا عظيمة يجب أن ننظر إليها جيدا ونطبقها عمليا لنصل لغايتنا.
تبدأ أحداث بيعة العقبة بعد عام الحزن ورحلة الطائف والإسراء والمعراج حيث وصل النبي ﷺ إلى قناعة بأنه لا فائدة ترجي من مكة، فقد تعرض المسلمون لإيذاء شديد، فلم تعد مكة آمنة وكان الحل الذي وصل إليه النبي ﷺ هو البحث عن موطن آخر، وهنا يتضح أن الهجرة إلى المدينة لم تأت فجأة أو مصادفة، بل بعد تخطيط دام ثلاث سنوات، وبعد فشل رحلة الطائف قرر النبي ﷺ دعوة القبائل العربية في موسم الحج من السنة العاشرة الذي يستمر عادة عشرة أيام أو خمسة عشر يوما، وذلك بهدف إيجاد قبيلة تستطيع أن تؤويه وتنصره وتساعده على إبلاغ رسالته.
وقد مضت الأيام العشرة ولم يجد النبي قبيلة تحميه، وفي آخر يوم في منى رأى ستة شباب من الأنصار كانوا من قبيلة الخزرج، أكبرهم سنا كان يبلغ من العمر 21 عاما وكان اسمه أسعد بن زرارة من بني النجار في المدينة، فقابلهم النبي عند الحلاق، فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: من الخزرج فقال: أمن موالي يهود؟
فقالوا: نعم فقال: أفلا تجلسون أكلمكم ؟ قالوا: قل فبدأ يعرض الإسلام ويقرأ القرآن وقال: إني رسول الله إليكم فعرف الشباب انه هو النبي الذي يتوعدهم به يهود هنا كان ترتيب الله ﷻ أن اليهود يعيشون في المدينة ويخبرون أهلها أن نبي آخر الزمان قد أتي، وبذلك سهلوا للنبي مهمته!!
أهمية أركان البيعة
آمن الشباب الستة، فقالوا: لقد جئناك وما من قوم بينهم من العداوة أكثر مما بيننا، لعل الله يصلح بك ما بيننا، سنعود هذا العام ووعدوا النبي ﷺ أن يلقوه في العام القادم عند العقبة مكان رمي الجمرات، ثم ذهبوا وعادوا بالفعل في نفس الوقت ونفس المكان لكنهم كانوا 81 من الخزرج و 4 من الأوس، ففرح النبي بهم كثيرا، وقام بعمل لم يقم به من قبل وهو المبايعة، بيعة العقبة الأولى في السنة 11، كما بايع النبي أهل المدينة هؤلاء بيعة سميت بيعة النساء لأن بنودها هي ذاتها البنود التي بايع النبي النساء عليها فيما بعد، ولم يبايعهم على الحماية فورا بل آثر أن يعطيهم الفرصة لينضجوا أولا فبايعهم على ألا يشركوا بالله شيئا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم ولا يأتوا ببهتان (أي خطأ) يفترونه بين أيديهم أو أرجلهم، وأخيرا لا يعصوه ﷺ في معروف.
وهنا نلاحظ أن المدينة تعيش حالة حرب، وعندما تكون حالة الحرب عالية تزيد السرقة والزنا والفقر الذي أدي بكثير من العرب إلى قتل أولادهم، لذلك فالنبي ﷺ يختار أمورا لو طبقها الناس لا نصلح المجتمع وهي بنود إيمانية اجتماعية سياسية في آن واحد، وبعد المبايعة طلب النبي إليهم أن يأتوه في نفس المكان ونفس الوقت من العام القادم كي يعقد اتفاقية معهم ليذهب إليهم، وأرسل معهم قائدا هو مصعب بن عمير، فهو صغير السن وابن عائلة كبيرة ومظهره جميل ومرتب ويمتلك شخصية هادئة وعاقلة، وكان من بين من أسلموا سعد بن معاذ، ثم أسلم بنو عبد الأشهل كلهم استجابة له، ودفع نجاح سعد في الحياة وصواب رأيه الناس لأن يتبعوه، فسعد بن معاذ أسلم وعمره 30 سنة وتوفي وعمره 37 سنة، حتى يقول النبي ﷺ: مات سعد بن معاذ فاهتز لموته عرش الرحمن..
جنازة سعد بن معاذ شهدها سبعون ألف ملك فتخيل قيمته عند الله، حتى إن النبي ﷺ دخل المسجد رافعا ثيابه كأن المسجد مليء مع أنه كان فارغا فلما سئل ﷺ قال: والله إنه ممتلئ بالملائكة استأذنت ربها أن تصلي على سعد بن معاذ حبا له وكرامة له، وهذه رسالة إلى ملوك ورؤساء الأرض فلو آمنوا وعاشوا للرسالة وأخذوا بأيدي الناس فسيصبحون عظماء جدا في الدنيا والآخرة.
أخطر اجتماع!
ثم مضي عام على الدعوة في المدينة والتي قادها ابن عمير، ولم يصبح هناك بيت في المدينة إلا وفيه مسلم، رجلا أو امرأة أو شابا أو عجوزا أو حتى طفلا. ثم اتفق الرسول ﷺ مع مصعب بن عمير على أن يأتي بوفد من الذين أسلموا في المدينة ليقابلوه ﷺ في موسم الحج، فقد تأكد أن الصحابة اصبحوا متميزين وجاهزين وإن الأنصار أصبحوا في منتهى القوة، لكنه ﷺ يدرك انه وفد كبير من 75 مسلما، وأن الخبر سيصل إلى قريش فتحاول أن تجهض الأمر، وأريد هنا أن أقف على طريقة النبي كيف كان يتعامل مع هؤلاء فلم يكن يعطي أوامره عن بعد، وإنما كان يجلس ويتكلم ويناقش الآراء المختلفة.
واتخذ النبي ﷺ احتياطاته وطلب منهم أن يأتوا وسط قافلة الحجيج القادمة من المدينة والتابعة للكفار لكي يندمجوا في المجتمع ولا ينعزلوا. وهذه مشكلة كثير من المتدينين انهم ينعزلون ولا يندمجون في المجتمع وهذا ليس من الإسلام.
انظر للنبي ﷺ عاش 13 سنة وسط مكة وكان يدعو الكفار، فكيف يدعوهم وهو غير مندمج معهم؟ فأنا لو كاره لك كيف أؤمن بك، ولو أحسستني بأنك متميز عني لأنك متدين وأنا غير متدين فلن أقبلك أليست هذه مشاكل موجودة.
كان النبي يتعامل معهم ويتآلف معهم، لا نفعل الحرام لكن مندمجون في المجتمع، فتخيل أن الوفد سيسافر مع القافلة في طريق الهجرة 500 كيلو سافر المسلمون وسط الكفار ولم يحدث صدام واحد!!
وأتى الوفد كله ومن حلاوة أخلاق المسلمين أسلم ثلاثة من الكفار، ومنهم رئيس وفد الحجيج من يثرب وهو البراء بن معرور! وكذلك دخل الإسلام إندونيسيا بالأخلاق، دخل المدينة بالأخلاق، فنحن نشدد على أهمية العبادة طبعا، لكن لو تركت الأخلاق أعلم انه فشل ذريع، أرجوكم يا شباب لا تفضحوا المسلمين، لا تغر الناس بعبادتك ثم تفسد الناس وتكرههم في الدين بأخلاقك السيئة.
ثم وصل الوفد، وحدد أن يقابلوا النبي مبكرا آخر يوم في منى، في وسط موسم الحج، في منتصف الليل عند العقبة فإذا اكتشف أمرهم فهم هنا لرمي الجمرات واشترط عليهم هذه الليلة أن يناموا في الخيام ولا أحد يخرج وأن يناموا وسط كفار يثرب كي يكون كل شيء طبيعيا، ولا يوقظ أحد الآخر، ولا يأتي خمسة مع بعضم بل يأتي كل اثنين معا. وأبوبكر وعمر بن الخطاب على رؤوس الجبال يراقبان.
إدارة وتخطيط وعمل. فهذا يوم التعاقد على النصرة، وحضر الاجتماع النبي ومعه العباس عمه وقد كان مشركا فافتتح الاجتماع قائلا: يا معشر اعلموا أننا -بني هاشم- نحمي محمدا إلى اليوم فإن كنتم ترغبون أن يأتي عندكم فتعاهدوا على حمايته وإلا فنحن قادرون على حمايته، ثم تحدث النبي ﷺ فقرأ القرآن أولا وحمد الله وأثنى عليه ورغبهم في الإيمان..
بدأ بعاطفة ولم يبدأ بكلام العقل مباشرة، ثم بايعوه على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وعلى الإنفاق في العسر واليسر، لأن هذه الدولة ستحتاج إلى مال والنبي ليس معه مال فيضعون مالهم، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح المجتمع، وألا تأخذهم في الله لومة لائم، منتهى الجرأة وعدم الخوف لأنهم سيواجهون صعوبات شديدة، وأن يمنعوه عندما يذهب إليهم (الهجرة)، يمنعوه كما يمنعون نساءهم وأطفالهم، وأن يحافظوا عليه في بلدهم كما يحافظون على أولادهم ونسائهم.
بقلم: عمرو خالد