عندما يشاهد كثيرٌ من الناس ناطحات السحاب، تلك المباني التي تعانق السماء، لا يسعهم سوى الانبهار والتساؤل: كيف يمكن لتلك الهياكل العملاقة أن تظل صامدة وثابتة على سطح الأرض دون أن تنهار أو تتعرض لأي مشاكل؟ خذ على سبيل المثال برج خليفة في دبي، الذي يبلغ ارتفاعه 828 مترًا، وهو ما يعادل تقريبًا ارتفاع خمسة أهرامات كبرى مكدّسة فوق بعضها البعض! ولعل هذه المقارنة تضع أمامنا حجم التحدّي الذي يواجه المهندسين عند تشييد مثل هذه المعالم المعمارية الضخمة.
لكن كيف بدأت فكرة بناء ناطحات السحاب أصلًا؟
بداية الفكرة… الحاجة أُم الاختراع
مع نهاية الحرب الأهلية الأمريكية عام 1865، بدأت موجة كبيرة من الهجرة الداخلية نحو المدن الكبرى مثل نيويورك وشيكاغو. ومع تزايد أعداد السكان، واجهت الحكومات مشكلة خطيرة، إذ بدأت الأراضي المتاحة للبناء في التقلص، بينما ظلت الحاجة إلى مساكن ومساحات عمل تتزايد. وهنا برزت فكرة التوسّع الرأسي بدلًا من الأفقي، أي بناء منشآت عالية توفر نفس المساحة التشغيلية على مساحة أرض أقل.
فبدلًا من بناء عشرة منازل مكوّنة من أربعة طوابق، لماذا لا يُبنى مبنى واحد من أربعين طابقًا؟ من الناحية النظرية، يبدو الحل منطقيًا وبسيطًا، إلا أن تقبّل الناس للفكرة حينها لم يكن سهلًا، فقد كانت فكرة “المباني الشاهقة” تُقابل بالخوف من انهيارها بسبب عدم ثباتها. لكن ضغط الحاجة المتزايدة جعل من تنفيذ هذه الفكرة أمرًا حتميًا، وكانت الخطوة الأولى في هذا الاتجاه تشييد أول ناطحة سحاب في العصر الحديث، وهو مبنى التأمين في شيكاغو عام 1885.
التحديات الهندسية: الثبات في مواجهة الطبيعة
لكن بناء ناطحة سحاب ليس بالأمر الهيّن، إذ يواجه المهندسون مشكلتين رئيسيتين:
- تحمّل وزن المبنى نفسه
- مقاومة قوى الطبيعة، وعلى رأسها الرياح والزلازل
بالنسبة للمشكلة الأولى، فإن أي منشأة تتعرض لأحمال مختلفة، منها وزن الأشخاص والمحتويات داخل المبنى، ووزن الأساسات والأرضيات والأسقف، وصولًا إلى وزن المبنى نفسه، والذي يُعرف في الهندسة باسم “الوزن الميت“ (Dead Load). ويتضمن ذلك وزن الأعمدة، الحوائط، الخرسانة، البلاط، وحتى الرمال. إذا تجاوزت هذه الأوزان قدرة تحمل المنشأة، فإن النتيجة الحتمية ستكون الانهيار.
أما المشكلة الثانية، فتتمثل في مقاومة المبنى لقوى الرياح والزلازل. قد يظن البعض أن الزلازل هي التهديد الأكبر، لكن الحقيقة أن الرياح، خاصة على الارتفاعات الشاهقة، تمثل خطرًا أكبر. فكلما ازداد ارتفاع المبنى ومساحة سطحه، أصبح أكثر عرضة لتأثير الرياح الشديدة، والتي قد تصل سرعتها إلى 120 كيلومترًا في الساعة في الطبقات العليا. هذه القوة الهائلة لا تضرب المبنى مرة واحدة فقط، بل بشكل مستمر، مما يجعل من الضروري جدًا أخذها بعين الاعتبار أثناء التصميم.
كيف واجه المهندسون هذه التحديات؟
أولًا: الأساسات العميقة
كان أول حل هندسي مقترح هو تأسيس قواعد عميقة للمبنى تصل إلى الطبقات الصلبة في باطن الأرض. فالتربة التي يُبنى عليها أي منشأ لا تقل أهمية عن التصميم نفسه. إذ إن أي ضعف في التربة قد يؤدي إلى ميلان المبنى أو حتى انهياره، كما حدث مع برج بيزا المائل في إيطاليا، والذي شُيّد ببراعة من حيث التصميم، لكن التربة التي بُني عليها لم تكن مؤهلة لتحمل هذا الوزن، مما أدى إلى ميلانه الشهير.
أما إذا كانت التربة ضعيفة، فما الحل؟ الجواب ببساطة: ندعمها. خير مثال على ذلك هو برج خليفة. التربة التي بُني عليها البرج عبارة عن تربة رملية غير صلبة، وغير قادرة على تحمّل وزن البرج الذي يصل إلى 500 ألف طن وهو فارغ! لذلك، قام المهندسون بضخ أكثر من 100,000 طن من الخرسانة في الأرض، معظمها خليط من الخرسانة المسلحة والفولاذ، إضافة إلى تثبيت 190 دعامة فولاذية عميقة تُعرف باسم “الخوازيق”، والتي وصل طول الواحدة منها إلى 50 مترًا، أي ما يعادل مبنى مكوّن من 16 طابقًا دُفن تحت الأرض لتثبيت البرج.
ثانيًا: تخفيف وزن المبنى العلوي
بعد الانتهاء من التأسيس، تأتي الخطوة التالية: تخفيف وزن المنشأة نفسها، خصوصًا في الأجزاء العليا. فعلى الرغم من ضخامة برج خليفة، إلا أنه لا يحتوي على أعمدة خرسانية ولا حوائط طوب تقليدية. السر في ذلك هو استخدام الحديد الصلب (الفولاذ) بدلًا من الخرسانة المسلحة، وهو مادة تُستخدم عادة في بناء ناطحات السحاب بسبب قوتها العالية ووزنها الخفيف نسبيًا.
لذلك، فإن الهيكل العظمي لأي ناطحة سحاب يكون عبارة عن شبكة مترابطة من الأعمدة والعوارض الحديدية. وبمجرد الانتهاء من هذا الهيكل، يُغطى المبنى من الخارج بالزجاج والشرائح المعدنية، ومن الداخل يتم تقسيمه إلى غرف وأجنحة حسب التصميم المطلوب.
ثالثًا: التصميم الذكي لمقاومة الرياح
إلى جانب الأساسات والمواد، يلعب التصميم المعماري دورًا جوهريًا في تقليل أثر الرياح. فنادرًا ما نجد ناطحة سحاب مصممة بشكل مكعب تقليدي، بل غالبًا ما تكون الواجهات متموجة أو مائلة أو تحتوي على فتحات خاصة لتمرير الهواء وتقليل الضغط.
على سبيل المثال، برج تايبيه 101 في تايوان يتميز بتصميم متدرج وغير مستوٍ، بينما برج شنغهاي يشبه الأسطوانة المجوفة، وهو شكل يساعد في توجيه الرياح حول المبنى بدلًا من اصطدامها به مباشرة. أما مركز شنغهاي المالي العالمي، فيحتوي على فتحة كبيرة في أعلاه تسمح بمرور الرياح من خلاله، ما يقلل من تأثيرها على الهيكل.
في الختام…
يمكن القول إن بناء ناطحات السحاب هو نتاج تضافر جهود هندسية هائلة تتعامل مع مشكلات فيزيائية وجيولوجية معقدة. فالمهندسون لا يبنون مجرد مبانٍ شاهقة، بل يشيّدون هياكل ذكية تتحدى الجاذبية وقوى الطبيعة، وتؤكد مرة بعد أخرى قدرة الإنسان على ترويض المستحيل وتحويله إلى واقع يلامس السماء.