على الرغم من إقبال الشباب على تقنيات العصر من أجل التواصل مع العالم، تساقط العمل اليدوي من الأذهان.
الكل في المجتمع يريد الشهادة الجامعية، والوظيفة الحكومية أو الرسمية، وإن كان في القطاع الخاص، فالبحث يتعلق بإجازتي الخميس والجمعة الأسبوعية.
وليس هناك من يتمنى أن يشمر عن ساعديه للعمل، حتى تأتيه الوظيفة، وينال من عرق الجبين ثمار العفة والعافية والربح الوفير.
«حامد القرشي» حاول في مهمة خاصة الدخول في سوق العمل اليدوي، للتعرف على عمل بائع الخضار، فكان الرصد والأمل ولقمة العيش.
الرحيل المبكر
لم تكن الفكرة التي طبقناها مجرد بدعة، أو مغامرة، لكنها مجرد بداية ربما يمكن السير على هداها، إن كانت حجة بعض العاطلين تتعلق بعدم وجود شواغر، أو ضيق فضاءات التوظيف.
هناك في الشارع العام يمكن الحصول على لقمة العيش، ليست على الرصيف، لكنها مغموسة برائحة الأرصفة وعوادم السيارات.
تقمصنا «المهمة الخاصة»، وحددنا الهدف، وساعة الصفر، وموعد الانطلاق، فيما الغرض معروف، وإن كانت النتائج غير محسوبة والأرباح أو الخسائر غير مضمونة.
بكالوريوس جامعي
قبل البداية ألقيت نظرة على الشهادة الجامعية التي تزين جدار المنزل: «شهادة بتقدير…» للطالب…، وضعتها ولملمت أغراضي وعتادي، عدا الحاسوب، وذهبت إلى حلقة الخضار.
هناك.. بدأت أتقمص الدور، لأنتقي من الخضراوات ما يمكن أن أجد من ورائه لقمة عيش، فيما الكلمة التي وجدتها الأنسب لممارسة هذه المهمة محورها: «قاصد رب كريم».
وجدتها تجدي مع كثير من باعة الجملة في الحلقة، لكنها لا تجدي مع العاملين الأجانب، سألت نفسي: «ترى أين ذهب الباعة السعوديون؟».
بحثت عنهم في كل موقع، فلم أجد غير القلة، ممن لا تبيع ولا تشتري، والمهم عندها جمع الدراهم، فيما العمال «إياهم» القائمون بالعمل على أكمل وجه، ولأنني لا أمتلك الدلائل والبراهين، لكنت اتهمتهم بالتحايل على السعودة، والعمل من الباطن أسوة بالمشاريع الخدمية التي تعرفها الجهات المختصة، ولا غبار عليها، ولا يمكن محاسبة أحد، إذ تتم المناقصات، دون أن تمتلك شركات ما ولا مسمارا واحدا، ثم تنطلق المساومات للشركات من الباطن، وفي النهاية نتأسف على فشل المشروع أو عدم تنفيذه بالشكل المطلوب.
لا أعرف لماذا ذهب بي الأمر بعيدا عن المهمة، لكن يبدو أن كلمة التاجر، وليس البائع السعودي الذي تربع على قمة «الخلف» وراء تلال المعروضات من الفواكه والخضراوات أوصلتني لهذا الحد.
سألتهم المعونة، وداعبت شفتاي عبارة «تكفى»، حتى ضاقت بي ذرعا، وانتهيت إلى حيث أردت، اشتريت البضاعة بسعر يمكن أن يرد لي ما يمكن أن أخسره، لو عدت لبيعه في أقرب بقالة بجوار المنزل أو حتى أعدته لسوق الجملة، وكما أبلغني التاجر السعودي: «تراني والله ما غشيتك، أعطيتك بسعر ما يعطونه لأحد في الحلقة، ولأنك على ما يبدو طري الجلد، وما عاوزك تخسر».
ابتلعت ما يمكن وصفه بـ«ريق الصباح»، وبدأت في الاختيار، والمراوغة: «طيب ما دمت طيب، ليش ما تدلني على الأصناف اللي ممكن تمشي، لأترزق الله».
انفرجت أسارير التاجر، وبدأ يتقمص شخصية «الناصح الأمين»: «لو أردت البيع في الحارات القديمة خذ البصل وابعد عن الطماطم هذه الأيام، ولو أردت البيع على أرصفة الأحياء الجديدة خذ السلطات من خيار وطماطم لكن بكميات قليلة، ونوِّع في الفواكه، وكفاية موز وبرتقال وبعض التفاح، وابعد عن الكمثرى والخوخ، لاحسن خسرانة معاك خسرانة؛ لأنه عندنا فيه ثلاجات، وثلاجة بيتكم لا تتسع البضاعة».
ابتلعتها للمرة الثانية، ورضيت بقسمتي، لكنني حييت فيه شهامته، حيث جعلني أرغب في هذا النوع من العمل، ولم أتمرد أو ينتابني اليأس من البداية.
حملت أغراضي، وبدأت في شد الرحال إلى حيث الرصيف، وفي بالي صرخة واحدة: «جيتك يا رصيف!».
خمس ساعات
حمدت الله أن شمس ذلك اليوم، لم تكن بالصورة التي يمكن أن تنخر رأسي؛ لأنني لست من أرباب العمل اليدوي، وأقصى وقت «تلطخت» فيه رأسي بالشمس، كان يوم الحصول على وايت ماء قبل موسم الحج، حيث انقطعت المياه عن المنزل، ولم أعد إلا بالوايت بعد أربع ساعات انتظار.
وفي هذه المرة جربت الساعات المضاعفة، ونصحت نفسي بالصبر، ما دمت من مجاوري المساجد: «كفاية أخرج بأربع صلوات، والله يضاعف لمن يشاء».
على بابك يا كريم
أنزلت حمولتي أمام المسجد إياه، «احتفظ باسمه ومقره وشارعه، حفاظا على حقي الأدبي، وخوفا من أن يقاسمني أحد التجار على بابه، إذا ما انقطع بي الأمل في الحصول على وظيفة حكومية، أو تجردت فجأة من وظيفتي الصحفية».
رتبت الخضراوات، كما ترتبها العمالة الوافدة، وحمدت الله أن لم تظهر مع صلاة الظهر أية عربة، توحي بقدوم الباعة الجائلين، ولا أخفي سرا إن قلت إنني تمنيت أن أكون البائع الوحيد في الشارع في هذا اليوم، بل البائع الوحيد في الحارة، وأمنية نفسي أن أكون البائع الوحيد في المنطقة».
«بكم الخضرة؟» أول سؤال ألقي على مسامعي، فغدا بالنسبة لي مثل أروع سيمفونية شهيرة للفنان العالمي بيتهوفن، وتذكرت «فحيوا بأحسن منها»، فوضعت سقف ربح لا يتعدى الريال الواحد للكيلو، عندها وجدت المشتري يجمع شتاته، ويلملم ثوبه، ويرخي عضلاته.
حسبته أنه سيخطف الكيس، ويركض أو يتعدى عليّ، راجعت بسرعة البرق حساباتي، فلم يكن هناك خطأ، اشتريتها بخمسة ريالات، وأبيعها بزيادة ريال واحد فقط، يعني بستة ريالات، لكن النهاية الواقعية للمشتري، أعادت الشهيق إلى جوفي: «تراكِ عدمتي والله، خفت منك».
طالتني ابتسامة سوداء، على نار هادئة، وانشغل الرجل بجمع ما لذ وطاب، واشترى خمسة كيلوجرامات، لأضع أول خمسة ريالات ربح في جيبي، ربما مثلت الآن قيمة البنزين الفعلية الذي قطعته بسيارتي من الحلقة على المسجد إياه، أو زيادة شيء ما أو ناقص بعض الشيء، «خوفا من أن يفضح أهل مكة الموقع بالضبط؛ لأنهم أدرى بشعابها».
«الطماطم إياها»
لم أذعن لرغبات التاجر الناصح الأمين، الذي أوصاني بالابتعاد عن «المجنونة»، إذا ما رغبت في البيع في أحياء نصف معدومة، في ظل ارتفاع الأسعار، ووصول الرقم إلى حاجز العشرة ريالات للطماطم الجيدة، بما يعني أن الصندوق يصل ثمنه إلى حاجز 35 ريالا، لكنني على غرار المقولة الشهيرة «بدل ما يرتمي يذهب لجوف الغلابة»، فكرت في أن يكون كل أكل أهل بيتي إذا عدت ببضاعة مكدسة لا تباع ولا تشترى عبارة عن طماطم.
سألني المسن الذي توكأ على عصاه، بمأرب واحد اسمه العجز والشيخوخة، مستفسرا عن سعر «المجنونة اليوم»، عرفت عندها أنه أحد المتابعين لسعرها جيدا، طالما نطق اليوم على مسامعي؛ فلم أبالغ في السعر، ووضعت خمسة ريالات فقط على قيمة الصندوق، ليصبح «40 ريالا يا أبوي».
«ويش جنسيتك أنت، سعودي أنت؟»
«حياك الله أبوي، والله ولد بلد، من شارع «..»، «والله الطماطم غالية»، وبدأت في محاولة التكلف المعروف في البائعين الذين يروجون الليمون على أنه فراولة، لكن العم المسن، سرعان ما قاطعني، معلنا معرفته التامة بالأسعار، رافضا حملة التدليل، التي أشهرت أنيابي إيذانا بانطلاقها: «أعرف الحال، أعطني صندوقين».
تلفت يمنة ويسرة خوفا من البلدية، التي شعرت بها للمرة الأولى، ربما لأنني مقبل على صفقة ثمينة ستجني ليّ ربحا وفيرا، لكنني بفضل من الله لم أجد أحدا، ومع ذلك بدأت كـ «زرقاء اليمامة»، أسترق الأنظار، وأشف ما خلف البنايات، ولم تردعني لكمات العم العجوز، بصيحاته: «يا ولد، وأنا أبوك، عطني الطماطم، ما قادر أوقف».
لكن الشيء الوحيد الذي أعاد لي بصري «الملقوف»، تلك اللوحة في زاوية المسجد، والدالة على اسم الحي الذي أنا فيه: (والله ما عندك أحد في حي كهذا، ناس البلدية عليهم بالنكاسة، وما هم فاضين لينا هنا في حي راقي كهذا).
«آمر يا والد، تدلل»، حاولت معها التخفيف من تقاسيم الوجه المكفهر التي بدت على ملامح العم العجوز، التي كدت بـ «هبلي» أن أضيع أفضل الصفقات بسببها.
ناولني 100 ريال، فبادرت بإعادة 20 ريالا له، بقية صفقة الطماطم، لكنه دعاني لوضع الصندوقين في السيارة، لأنه لا يملك من زمام جسده إلى تلك العصاة، عندها لملمت بقية النقود في يدي وحملت الصندوقين إلى حيث سيارة لا تقف بعيدا عني إلا بأمتار معدودات، رتبتها في حقيبة السيارة، وبادرته: «الباقي يا والد»، فتسلم المبلغ وتفحصه جيدا، حتى ظننت أنه يعده تشكيكا، لكنه أمطرني بحسن النظر، على الرغم من أنني اتهمته «ويشهد الله بسوء الظن»، ليعيد إليّ خمسة ريالات، فاعتقدت أنه ربما أخطأ في الحساب: «لا الحساب 80 ريالا، مو 85»، فتبسم ضاحكا، وهز برأسه، وبدأ في الاستعداد للرحيل.
سألت نفسي: (مو هادي التبس اللي يقولون عليها في الأفلام والمسلسلات، والله لو استمرينا على هذا الحال، لأربح من الإكرامية أكثر من ربح البيع).
وراء الجدران
رأيته، هناك في مكان ما، كان يرمقني، في البداية، رفضت الاسترسال في النظر إليه: «اختلجت في نفسي المخاوف من افتضاح أمري، فعزمت على فضح هويتي لو جاء واتهمني بالبيع العشوائي بلا أذونات وتصاريح، وبلا مقدمات، لكنني تراجعت وفضلت المجادلة، جادلوا تصحوا، سأصرخ في وجهه، وأجمع شمل المصلين، وأقول لهم إني ابن البلد، عاوز آكل لقمة عيش بالحلال، وناس البلدية ما يهمهم إلا مضايقتنا، سأدعوه لزيارة النكاسة، روحوا شوفوا لكم حل مع البضاعة اللي يجيبونها من الصرف الصحي، والمنتهية الصلاحية، بدلا من مطاردة ابن البلد، روحوا شوفوا لينا وظائف بدلا من مضايقتنا، أبوي مريض وأمي مسنة، وأنتم تبون تأخذون البضاعة، والله حرام».
كمٌّ كبير من الرسائل التهديدية والاحتجاجية والرجائية، والتوسلاتية، راكمتها نفسي، انتظارا لوصول ذاك الشاب المختبئ وراء الجدران، فحتما سيكشف عن هويته ويفضحني.
وكلما بدأ في الاقتراب، اقترب فكري في أن «أنحاش»، لكن البضاعة هي السبب في بقائي، وكانت المواجهة وجها لوجه.
أقولك.. وش تبي؟ عبارة ألقيتها على مسمعه، يعلم الله أنها بروح التحدي والإصرار على الفعل والعمل ووداع شبح البطالة، والتمسك بعرق الجبين، بدلا من جلسات الأرصفة ولعبة البلوت.
سعودي أنت؟
سؤال الهوية أعاد لي شيئا من كرامتي التي ربما فقدتها في البحث عن مخرج من تلك الورطة، لكنها حفزتني على كيفية التعامل مع ذاك المراقب.
إي سعودي، وابن بلدك مثلك، وش تبي؟
ويبدو أن تكرار اللهجة، دعته لفضح هويته: «بكم تشتري الخضار، وكم رأس المال اللي يبقيني بائع مثلك».
عندها استعدت دور «التاجر الأمين»، الذي التقيته في حلقة الخضار، وبادرته: «تبي تبيع في الأحياء القديمة وألا الجديدة؟!».
غادر الشاب الموقع، وبدأت أجمع أوراقي النقدية، وأعدها وأرمقها، وجدتها 200 ريال ربحا صافيا «لا ريب فيه»، من واقع سبع ساعات عمل.
حاورت نفسي: «يعني في الشهر ستة آلاف ريال».
تساقطت من ذاكرتي مهنتي، وتقمصي للمهنة، والمهمة الخاصة، وكل شيء، فقط تذكرت أن أصرخ من داخلي: «جيتك يا الحلقة».
تقرير بقلم: حامد القرشي