حين يُكسر الطغيان
كان صباحاً هادئاً مُفعماً بنسمات الشتاء الباردة، تظلله غيوم الأمل والرجاء في مستقبلٍ أفضل، ورغم ما سبق ذاك الصباح من إرهاصات، إلا أنه لم يكن يُنتظر معه فجراً جديداً يُغيِّر وجه الدولة المصرية بكل حالها ومآلها، إنه صباح يوم الثلاثاء الموافق ٢٥ يناير للعام ٢٠١١ ميلادية.
رمزية تاريخ 25 يناير
لا يخفى على أحد أن تاريخ الخامس والعشرين من يناير هو ذكرى الملحمة الشُرَطِيَّة، حين قام رجال الشرطة المصرية ضباطاً وجنوداً في العام ١٩٥٢م بالتصدي للإحتلال الإنجليزي وأوامره بتسليم السلاح وإخلاء مبنى محافظة الإسماعيلية، وهو ما وُجِه بالرفض القاطع واللجوء إلى خيار المقاومة المسلحة من قِبل رجال الشرطة، وحدث على إثر ذلك مذبحة راح ضحيتها أكثر من ٥٠ شرطي مصري، وتخليداً لذكرى هؤلاء الأبرار اختارت الدولة ذلك التاريخ عيداً سنوياً للشرطة تحتفي فيه بأمجادها وبطولاتها.
لكنه بعد مرور أكثر من نصف قرن ساد المشهد العام تَأسٌّد واضح من جهاز الشرطة بسلطته وسطوته على جموع الشعب الكادح وخاصةً المعارضين السياسيين، وأصبحت حوادث إعتداء أفراد الشرطة على المواطنين تتعاقب واحدة تلو الأخرى حتى بلغ السيل الزُبى، وبلغت القلوب الحناجر خوفاً وفزعاً من كل ذي رتبة شُرطِيَّة وإن ضعفت، وهو نقيض المرجو من جهاز أصله الدستوريّ مدنيّ، وأساس عمله حفظ أمن المواطنين وحقوقهم.
وجاءت الدعوات للقيام بثورة مصرية خالصة على قمة هرمها شبابٌ في مقتبل العمر وعنفوان القدرة في هذا اليوم تحديداً؛ تأكيداً على أنها لن ولم تكن دعوة لثورة جياع، وتأكيداً على أن سقف طموحاتها لن يُخفِضَه إنعامٌ بكِسرة خبزٍ أو حِفنة مالٍ، بل هي دعوة لإنتفاضة شعبية غايتها ومنتهاها رفع الظلم وسيادة العدل وحفظ كرامة المواطن المصري، أما ما دون ذلك فهو تحصيل حاصل وأهداف تابعة لهدف قائد، وهو ما تجلى واضحاً في الشعار الذي اختارته الجماهير ونادت به “عيش، حرية، كرامة إنسانية”، وكما يقول علماء اللغة العربية؛ فإن وحدة السياق هي الأصل في التفسير، فإن كلمة عيش هنا مقصودها المعيشة الكريمة عطفاً على ما بعدها، لا كما فُسِّرت من قبل البعض بأنها تشير إلى الخبز تبعاً للعامية المصرية الدارجة التي تُسميه (عيش).
بداية الحكاية ونقطة الإنطلاق
لم تُستحدث ثورة ٢٥ يناير من العدم، كما أنها لم تكن نبتاً شيطانياً بزغت أشواكه فوق الأرض مع بزوغ فجر هذا اليوم، بل إن الحكاية بعيدة البداية عن ذاك التاريخ بثلاث سنوات كاملة، مثلما تبعد أسبابها وعوامل اشتعالها عن ذلك التاريخ بثلاثين سنة كاملة، ففي العام ٢٠٠٨م أسس مجموعة قليلة من الشباب الطَموح ما يُعرف بحركة ٦ أبريل، وقد دعت تلك الحركة إلى تحركات سلمية احتجاجاً على الأوضاع المعيشية والسياسية والإقتصادية المتردية كنتيجة مباشرة للفساد المستشرٍ في ظل حكم الرئيس محمد حسني مبارك.
وبالفعل نجح شباب الحركة في تنفيذ إضراب سلمي يوم ٦ أبريل ٢٠٠٨م، وسرعان ما استجاب للدعوة ما يزيد عن سبعين ألف مواطناً، جُلَّهم من عمال المصانع بمدينة المحلة الكبرى، ونجح الإضراب وألقى بظلاله على الأوساط الرسمية والشعبية، لتتسع القاعدة الشعبية المؤيدة للحركة وشبابها بطول البلاد وعرضها، فلم تكد تخلو محافظة من محافظات مصر من أفرع ثورية عاملة تحت لواء الحركة، وليس ذلك وحسب بل تبعت نشأة ٦ أبريل ونجاحها نشوء حركات شبابية وعمالية ونقابية تَتْرى، وهو ما تمخض عنه زيادة حجم الوعي بالحقوق السياسية والإقتصادية والإجتماعية المكفولة لكل مواطن في دستور البلاد، والتي تتقاعس عن أداءها الحكومات، فكان من نتاج ذلك زيادة حجم الإضرابات والإحتجاجات العامة والفئوية والمهنية والشخصية، إلى أن وقعت حادثة مقتل الشاب خالد سعيد بصورة وحشية على يد مجموعة من رجال الشرطة بالإسكندرية، فزاد الحنق وأثقل الغضب قلوب كل مصري غيور على روح شاب في العشرينات من عمره، فتصاعدت وتيرة الإحتجاجات وتسارعت، وأصبح كل تجمع مناهض للسياسات الحاكمة يستقطب الآلاف من المواطنين مشاركةً ودعماً، ليقرر حينها كلٌ من وائل غنيم وعبد الرحمن منصور إنشاء صفحة على موقع التواصل الإجتماعي فيس بوك باسم “كلنا خالد سعيد”، والتي هدفت منشوراتها إلى حث المصريين على العمل من أجل التخلص من النظام الحاكم بما يمثله من فشل إداري وإقتصادي وأمني، وبممارسات حاميته المتمثلة في سوء معاملة الشرطة للشعب وفرض قانون الطوارئ الذي لا يُفرق بين متهم وبرئ.
وظل الوضع في مصر بين كرٍّ وفرٍّ بين الشعب الغاضب وأجهزة الدولة المتمسكة بقبيح سياساتها وفساد نهجها، حتى انتفض الشعب التونسي في ثورة بيضاء أواخر العام ٢٠١٠م ضد حكم زين العابدين بن علي انتقاماً لقيام الشاب محمد البوعزيزي بحرق نفسه في ميدان عام يأساً من مآسيه الإقتصادية والإجتماعية وكرامته المهدرة على يد شرطية صفعته عياناً بياناً جهاراً نهاراً دون أدنى حُمرة خجل، فهرب الرئيس بن علي بفعل الحشود الغاضبة سراً إلى خارج البلاد نجاةً بنفسه وأهل بيته، فأحس الشعب المصري حينها أن الطغيان سهل الكسر مهما رُوِّج عن قوته وصلابته واستحالة إزاحته.
وعندها فقط تحددت نقطة الإنطلاق وساعة الصفر، حيث أعلنتها صريحةً صفحة كلنا خالد سعيد بضرورة الخروج يوم ٢٥ يناير بحثاً عن الحرية والكرامة، وتبعتها في ذلك كل الحركات الشبابية والتكتلات السياسية المعارضة، مثل حركة كفاية وتكتل ٩ مارس لأعضاء هيئة التدريس بالجامعات المصرية وتكتل الجمعية الوطنية للتغيير وتكتل قضاة مستقلون، علاوةً على العديد من النقابات المستقلة وشباب الأحزاب والمستقلين السياسيين والأفراد العاديين الغير مُسيسين أو منظمين أو مُأدلجين، وقد عارض تلك الدعوات تحت ذريعة أن مصر ليست تونس الجهات الرسمية ومن في كَنَفِها من الجهات الغير الرسمية القابعة تحت عباءة السلطة خنوعاً لأوامرها ونواهيها، وانضوى تحتهم من المعارضين عجائز الأحزاب الهَرِمة وجماعة الإخوان المسلمين، وفي النهاية لُبِّيّ النداء واستجابت الجموع على حذر.
ما قبل تنحي مبارك
بدأ يوم ٢٥ يناير ٢٠١١م كغيره من أيام العطلات الرسمية، هادئاً سَكُوتاً يبشر بالكسل والدعة، إلا أن هذا الصباح لم يخلو من مناوشات متقطعة بين رجال الأمن الرابضين بالشوارع والميادين القاهرية الرئيسية من عِشاها السابق وبين متظاهرين لا يزيد تعداد المجموعة الواحدة منهم عن رقمين يحتلان خانتيّ الآحاد والعشرات، وتمركزت هذه المجموعات القليلة العدد إما عند نقابة الصحفيين أو عند دار القضاء العالي.
وعقب صلاة ظهر اليوم كانت قد انهمرت سيول الحشود من كل حدبٍ وصوب، جاعلة من المساجد ساحة التجمع وخط بداية التحرك، لتنمو مجموعات المتظاهرين لأعدادٍ من أربعة أرقام متجاورة على الأقل، كان أعظمها حشداً المجموعات الزاحفة من الأحياء الشعبية كبولاق الدكروري وأحياء مصر العتيقة، وأخذت تلك الجموع المتحركة من عدة أماكن تجوب الشوارع رئيسية كانت أم فرعية، هاتفةً للحرية والعدالة وضد الظلم والقهر والقمع، إلى أن جمع بينهم كلهم ميدان التحرير بوسط العاصمة، والذي اتُخذ من اسمه رمزاً تفاؤلياً لمراد الناس من التظاهر، فَعَجَّ الميدان وامتلأ عن بكرة أبيه، إلى جانب ما شهدته عدة مدن مصرية أخرى من مظاهرات، وإن كانت أقل عدداً إلا أنها لم تخلو من الإصرار على عدم العودة، وأبرز تلك المدن دمياط وأسيوط والمحلة الكبرى والإسكندرية والمنصورة والسويس والإسماعيلية وطنطا، لتجد قوات الأمن نفسها فاقدةً للسيطرة على الأوضاع، وتائهةً بين قوة الحشود وعنف عدم إطاعة الأوامر، فقررت القيادات عند منتصف الليل فض الإعتصام بالقوة؛ لتسيل أول قطرة دم مصرية من ثلاثة قتلى من المتظاهرين ومن جندي بالأمن المركزي، وحلَّت لعنة الدم على رؤوس صانعي القرار لثمانية عشرة يوماً متتالياً.
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
لما تشربت الأرض الطاهرة دماء المغدور بهم من الجانبين؛ هاجت من تحت الأقدام بركاناً تحرق حممه كل من استخف واستهان، ولهيباً أُوقِد في صدور العُزَّل الثائرين لكرامتهم وحقهم ومَن بعدهم في وطنهم، فأصرت الجموع المحتشدة – بتوجيهٍ ذاتيّ – على البقاء وعدم العودة، هاتفة حناجرهم بصوتٍ مسموع “الشعب يريد إسقاط النظام”، وهو ما لم يُخطط له من قبل، لا من قِبل الدعاين ولا المدعويين.
فتواصلت المظاهرات، بل وتصاعدت الإحتجاجات في العاصمة ومدن مصرية أخرى، ليتحول المشهد إلى ما يُشبه حرب الشوارع بين قوات الأمن المدججين بالسلاح في مواجهة من لا يملك سوى إيمانه بمستقبل أفضل وإن لم يشهده حياً.
ومما زاد فورة البركان لهباً على لهب قيام السلطات المصرية تباعاً بحجب موقعي فيسبوك وتويتر، بالتزامن مع تجاهل الإعلام الرسمي والخاص الموالٍ للأحداث، خاصةً مع لجوء آلاف من قوات الأمن إلى الإستعمال المكثف لقنابل الغاز المسيلة للدموع بُعَيد منتصف ليل اليوم الثاني.
ومع صبيحة اليوم الثالث اشتعلت إلى جانب القاهرة مدينتي الإسماعيلية وطنطا، مع ظهور مجموعات متظاهرة على استحياء في عدة مدن مصرية أخرى، لتستجير السلطة الحاكمة من نارها برمضاء غباء سياساتها وقراراتها، حيث قررت اعتقال وائل غنيم، وقطع خدمة الإنترنت نهائياً عن مصر كلها، كما دفعت بِخُدَّامها إلى القنوات الفضائية ليطلوا على الجمهور عبر الشاشات متقمصين دور هامان في دفاعه عن فرعون، لتخرج على الملأ تعليقاتهم الرسمية عن المظاهرات واستنكارها والهجوم عليها، ودون ورعٍ عن كثير من البذاءة والكذب والتضليل والتشويه، لتُقابل تلك التصرفات الغوغائية الفاقدة للحكمة والمنطق بدعوات من القوى المتظاهرة للشعب الحالم بالخروج يوم الجمعة ٢٨ يناير تحت مسمى جمعة الغضب.
ولما أقبل الصبح كانت لم تبرح السلطة مكانها، ولم يفكر عاقلٌ فيها في تغيير نهج السير ونمط التفكير، بل استمرت على عِنادها وكفرها بمطالب منطقية لشعبٍ في وطنه الأم، حيث وجَّهت بالإعتقال العشوائي وبصورة غير مسبوقة لكل من يُشَك – مجرد شك – في تناغم ميوله مع ما يحدث، كما أصدرت وزارة الإتصالات قرارها بقطع خدمات الهواتف المحمولة في جميع أرجاء الجمهورية.
ذلك التعتيم المتعمد والإنكار الصريح للواقع ألهب حماسة من لا يملك في السياسة والعمل العام ناقةً ولا جمل، فخرج عقب صلاة الجمعة مئات الآلاف من المواطنين في تظاهرت شعبية، حتى إن المدن التي آثرت السلامة أو التي توجست خيفة من المشاركة اشتد عزمها ورُبط على قلوب أبناءها؛ فخرجوا، وانضمت إلى المدن المتظاهرة من اليوم الأول مدنٌ أُخر، مثل دمياط والفيوم والمنيا ودمنهور ومحافظة الشرقية وبورسعيد ومحافظة شمال سيناء، لتصبح قوى الأمن شتاتاً في شتات، فضجّ صدرها وخاب تفكيرها؛ فلجأت بجانب قنابل الدموع إلى الرصاص المطاطي الخارق الحارق، فاستشاط غضب الجماهير وتوجهوا إلى القصر الرئاسي مُنادين بسقوط الرئيس المصري.
وفي الأثناء كانت تندلع المعارك الجانبية هنا وهناك شاملةً كل المدن المتظاهرة، فمن غلبةٍ للمتظاهرين وسيطرة كاملة حيناً، إلى ترك الجنود النظاميين لمواقعهم وخور قواهم وتسليمهم بالأمر الواقع حيناً أخرى، وهو ما مكَّن من زحف الحشود على منشآت حكومية ومؤسسات رسمية تابعة لوزارات حكومية مختلفة، وعلى الأثر ظهرت قوات الجيش المصري في الشوارع والميادين وأمام المقرات الرسمية، ليُعلن الحاكم العسكري حظر التجوال.
كل هذه الأحداث المتلاحقة أنذرت بإنفلات الزمام من يد الحكومة المصرية، وبدا ذلك واضحاً في تدمير العديد من مقرات الحزب الوطني الحاكم وقتها، وتدمير عدداً من أقسام الشرطة، علاوةً على انهيار البورصة المصرية بخسائر بلغت ٧٢ مليار جنية.
كان نزول الجيش المصري إلى الشوارع منعطفاً خطيراً في تطور الأحداث، حيث وصلت للحكام والمحكومين الرسائل الضمنية التي لا تحتاج إلى بالغ فطنة أو عظيم ذكاء، فقد سمح الجيش للمتظاهرين بالوقوف فوق آلياته العسكرية رافعين الأعلام واللافتات المنادية برحيل مبارك الطاغية، كما تبدلت الأوضاع داخل الغرف المغلقة ليعلن التلفزيون الرسمي للدولة عن عودة خدمات الهواتف المحمولة دون الإنترنت، وعن مجموعة من الإستقالات المقدمة من أركان النظام وأعمدته ودعائمه، وكان على رأسها استقالة المهندس أحمد عز أمين تنظيم الحزب الحاكم وقتها من منصبه، حتى إن النبرة تغيرت حين خاطب حسني مبارك الجماهير عبر التلفاز، واعداً بحل جميع المشكلات الإقتصادية وتشكيل حكومة جديدة تعمل على رخاء الشعب ورفاهيته وحريته، وهو ما لم ينطلي على قوى الشعب الثائر؛ فرفضته رفضاً باتاً، إصراراً منها على رحيل النظام وأركانه من المشهد.
وقد صدق الشعب في إصراره، لأن تلك الوعود المعسولة صاحبها انتشار مكثف وغير منطقي لعصابات البلطجة والسلب والنهب في كافة أحياء القاهرة، وهو ما تجاهلته قوات الشرطة التي تركت ساحات المعارك اختباءً، ليخرج المتحدث العسكري معلناً أن الجيش بقواته سيتصدي لجميع العصابات كبديلاً عن قوات الشرطة المنكسرة والفاقدة للإتزان.
وفي تطور سريع بدأ الرئيس مبارك أولى ملامح التغيير من وجهة نظره بتعيين اللواء عمر سليمان في منصب نائب رئيس الجمهورية، وتعيين اللواء أحمد شفيق في منصب رئيس الوزراء، ليفهمه المتظاهرون على أنه استمرار لمسلسل العسكرة والتترس بأصحاب الولاء وإن كانوا عديمي الكفاءة الإدارية، فاستمر التحدي والصمود رغم كل ما تشهده البلاد من إنفلات أمني دعا المواطنين إلى تشكيل لجاناً شعبية لحماية ممتلكاتهم الخاصة.
وما زال مسلسل الأحداث السريعة المتلاحقة على اشتعاله، والمتظاهرون باقين في الميدان على حالهم، إلى أن جاء الدور على الخطاب الثاني للرئيس مبارك، وهو الخطاب الذي أعلن فيه عدم نيته للترشح مرة أخرى، بيد أنه يريد إكمال فترته الرئاسية منعاً للفوضى، ودرءاً لتقويض النظام الدستوري، ودعَّم خطابه هذه المرة بعبارات أبوية حنونة، باعثاً برسائل ضمنية تفيد بأنه ليس خائناً ليفر كزين العابدين التونسي الهارب، وليس ضعيفاً ليُدفن خارج أرضه، فلمس قلوب بعضاً من كارهيه، إلا أن رهطاً آخر أصر على الرفض، ولم تنطلي عليه رقة القلب ورهف المشاعر التي اعترت الحاكم فجأةً بعد مكوثه على سدة الحكم ما يقارب الثلاثين عاماً إلا نيف.
وأُشيح برقة كلمات الخطاب إلى مزبلة الذاكرة صباح يومه التالي، حين اندفعت جموع البلطجية وفق مخطط مُعدّ سلفاً لتفريق الحشود المناوئة لمبارك بالقوة في كلٍ من الإسكندرية وبورسعيد.
إلخ بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، واستعانوا في مخططهم لتفريق متظاهري ميدان التحرير ببلطجية ممن يعتلون الجمال والأحصنة والعربات التي تجرها الخيول، حيث انطلقت تخترق صفوف الجماهير المتراصة في الميدان، قاذفةً بالقنابل الحارقة والحجارة وقطع الأسمنت، إلا أن رعونة التخطيط والتنفيذ جعل كيد من دبر في نحره؛ ففشلوا، وتلقفتهم أيدي المتظاهرين، وركلتهم أرجلهم؛ فمات من مات وأصيب من أصيب وهرب من هرب، لتقطع السلطة المصرية الحاكمة حينها شعرة معاوية التي بينها وبين الشعب، ولتقضي على أي بصيص أمل في جاهزيتها للتخلي عن كِبرها وعشوائيتها، خصوصاً بعد وصول عدد قتلى المتظاهرين بعد ساعات من الإشتباكات الدامية لثلاثمائة ويزيد.
ولم تراوح الأمور مكانها، الجيش بات شرطةً رُغماً عنه، والشعب اتخذ من الميادين بيوتاً صدقاً منه، وما بين كرٍ وفر، وما بين مقبلٍ على مجهول ومدبرٍ على بريقٍ سلطويٍّ معسول، لتعود خدمات الإنترنت في جميع أنحاء مصر بعد توقف دام لخمسة أيام متصلة، ليُعاد استخدام منصات الشرارة الأولى مرة أخرى، ولكن هذه المرة لم يقتصر الإستخدام على دعوات مكتوبة، ولكنها اشتملت على دعوات مدعومة بمشاهد واقعية من وحشية وهمجية غاشمة في مواجهة العُزَّل من الشِيب والشبان.
ولما فشلت خطط الفض الممولة من رجال أعمال النظام، والمنفذة من قُطَّاع الطرق وهاربي السجون، بدأت الدولة تزج بمشاهير الفن والإعلام الموالين لإرعاب الناس وتخويفهم من المستقبل المجهول بدون مبارك، وعودٌ على بَدْء؛ باءت كل محاولاتهم بالفشل، واستمرت الدعوات لمظاهرات مليونية ومواصلة الإعتصامات.
وفي الخضم وُضع وزير الداخلية حينها حبيب العادلي مع ثلاثة من قيادات الوزارة تحت الإقامة الجبرية، كما تم إقصاء جمال مبارك نجل الرئيس وصفوت الشريف من الحزب الوطني الحاكم، وبدأ نائب الرئيس عمر سليمان حواراً رسمياً مع مجموعة من ممثلي المعارضة والشخصيات الهامة، وانتهت المباحثات بالتوافق على تشكيل لجنة لإعداد تعديلات دستورية في غضون شهور، مع بدء العمل على إنهاء حالة الطوارئ، وتحرير وسائل الإعلام والإتصالات، وملاحقة المتهمين في قضايا الفساد، وأُفرج عن وائل غنيم.
لدينا أيضًا من أجلِك
- مقال بالنقاط عن ثورة 25 يناير كامل
- كل شيء عن ثورة 25 يناير
- نبذة عن ثورة 25 يناير
- معلومات عن ثورة 25 يناير
- معلومات عامة عن ثورة 25 يناير
وفي المقابل رفع المتظاهرون مطالبهم المحددة في نقاط هي رحيل الرئيس، حل مجلسي الشعب والشورى، تولي رئيس المحكمة الدستورية العليا رئاسة البلاد لفترة انتقالية، تشكيل حكومة انتقالية لتسيير الأعمال، تولي الجيش حفظ الأمن، تولي الشرطة العسكرية مهام الشرطة المدنية، عزل قيادات الشرطة ومدراء الأمن، التحفظ علي المسؤولين السابقين ومنعهم من السفر مع تجميد أموالهم، الإعداد لإنتخابات رئاسية وتشريعية.
يوم السقوط
في اليوم الثامن عشر من اندلاع التظاهرات السلمية ألقى المتحدث العسكري البيان الثاني للقوات المسلحة، والذي أكد فيه على أن الجيش يكفل إجراء تعديلات دستورية وانتخابات حرة نزيهة، ويضمن الإصلاحات التي تعهد بها الرئيس حسني مبارك في خطابه، كما أكد على تعهد الجيش بإنهاء حالة الطوارئ، والفصل في الطعون الانتخابية، وإجراء التعديلات الدستورية، وصولاً إلى مجتمع ديمقراطي حر، لكن كل تلك التعهدات لم يعتبرها المتظاهرون ممكنة الحدوث طالما استمر مبارك على ما هو عليه، لذا من هتفوا بأن الأوجب أن يترك السلطة؛ ليؤدي كل مسئول دوره المنوط به.
وبعد طول انتظار لا مبرر له غربت شمس يوم الثورة الأخير تزامناً مع غروب شمس مبارك الحاكم، ففي بيان مقتضب خرج نائب الرئيس عمر سليمان بوجهٍ عابس وأسارير مقفهرة، تالياً على الشعب المصري بيان رئاسة الجمهورية الذي يُعلن فيه رئيس الجمهورية محمد حسنى مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية، وتسليم إدارة شئون البلاد للمجلس الأعلى للقوات المسلحة.
لينزل الخبر على الشعب المصري نزول الصاعقة، لكنها صاعقة الخير والبشرى، صاعقة الحمد والشكر، صاعقة الفرح والسرور، صاعقة الأمل المحفوف بالخوف الفطري من المستقبل ومن نكث الوعود وتخلي الرجال عن الأمانة.
ضحايا ثورة ٢٥ يناير
إبان الثورة سقط العديد من الضحايا إما على يد قوات الشرطة، وإما على يد المأجورين والتابعين، ولتضارب الأرقام وعدم رسميتها لا يمكن الجزم بعدد محدد لضحايا انتفاضة الشعب الكريمة، فمن تصريح لوزير الصحة بوزارة تصريف الأعمال بأن العدد حوالي ٣٦٥ قتيل، مروراً بترجيحات المصادر الأهلية القائلة بأن العدد تجاوز الـ ٥٠٠ قتيل، وصولاً إلى تصريح آخر من وزارة الصحة يقضي بأن عدد الوفيات بلغ ٦٠٠ شخص والمصابين ٦٤٦٧ شخص، وبعيداً عن تصريحات المسئولين يقدر الخبراء عدد المتوفين بما لا يقل عن ٨٤٠ شخصاً بطول البلاد.
احمل ما شئت في قلبك نحوها، إلا أنها ستبقى أنبل فعل جماعي في تاريخ مصر المعاصر، منذ نشأة الدولة الحديثة على يد محمد علي وحتى يومنا هذا، فلا أنبل من أن تُفْقََد أرواحاً لتنعم أبداناً غير أبدانها، إنها ثورة ٢٥ يناير المجيدة. رحم الله من مات غدراً ليحيا غيره كريماً معافاً.