متطلبات الولاء والانتماء للوطن، تلك هي خطبة الجمعة القادمة التي حدَّدتها وزارة الأوقاف المصرية ليوم الجمعة القادم الموافق ٢ / ١٠ / ٢٠٢٠ ميلادية.
متطلبات الولاء والانتماء للوطن
الحمد لله على نعمه التي لا تحصى ولا تعد وفضائله التي لا تحد، والحمد لله الذي رغم الذنوب يسترنا ورغم الكفر بالنعم والتقاعس عن الشكر يرزقنا، ويمهلنا ويتقبل توبتنا ويغسل إن صدقنا العود حوبتنا، ولا يغلق باب التوبة في وجوهنا، فالحمد لله أن ربنا الله.
والصلاة والسلام على رمز الكمال وكمال الوجود، وعلم الهدى والكرم والوجود وعلى آله الأطهار المطهرين، وعلى أصحابه الغر الميامين وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد:
فإن الله عز وجل خلقنا وركب فينا بعض المشاعر والغرائز الفطرية التي نولد بها ولا نكتسبها ولا فضل لنا حتى في التحلي بها، ومن تلك المشاعر حب الوطن والانتماء إليه والحنين إليه والخوف عليه، ونقول أنه شعور فطري يستشعره كل شخص طبيعي وسوي لأنه يشبه حب الوالد لولده ولا فضل لأحد فيه، وهو من البديهيات والمسلمات فمتى ولد لإنسان في وطن وشهد هذا الوطن طفولته، ونشأ في كنفه مستظلاً بسمائه ومتمتعاً بما تجود به أرضه، ومتنعماً بثرواته وخيراته، ومتى كان موطنه هو موطن الأهل والأحباب ومستقر الخلان والأصحاب، وموطن الأحلام والشاهد على رحلة الأيام، تعلق به قلبه وصار له ولائه، وحق له الانتماء إليه.
ولأن حب الوطن يظل عالقاً بالقلب متشبثا بروح المرء أينما ذهب فإن ترك الوطن والبعد عنه هو درب من الغربة والتعب والكبد، وفيه ما فيه من المشقة على النفس لذا فإن القليل يفعله مضطراً ومرغماً ومكرهاً، لضرورة يقتضيها الدين أو السعي على الرزق أو طلب العلم أو نحوه من الضرورات، ويظل الشعور بالغربة من المنغصات التي لا تفارق القلب ولا تبرحه حتى يرجع للوطن وينعم به، ولعل مما يدل على ذلك ويؤكد مشقته ما يقوله الله عز وجل في بعض آيات الذكر الحكيم: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ).
ولعل ذلك السبب هو ما جعل لهجرة الصحابة الكرام وتركهم أهلهم وديارهم في بدايات الدعوة منزلة عظيمة ومزية عند الله كبيرة لا يضاهيها عمل، ولا يدانيها فضل، ولا ينافسهم فيها من جاء بعدهم ممن تمتعوا بالاستقرار في أوطانهم، وطابت حياتهم بصحبة أهاليهم وأبنائهم.
حب النبي “ﷺ” وولائه وانتمائه الكبيرين لموطنه العزيز
لنا في رسول الله “صلى الله عليه وسلم” الأسوة والقدوة والمثل الأعلى في حب الوطن والتمسك به، ولعل في سيرته العطرة ومسيرته الحافلة بالجهاد والكفاح في سبيل الدعوة الإسلامية الكثير من المحن والمشقات والكبد والعنت والأذى الذي لاقاه من أعداء الدعوة ومن بني جلدته وأهله وعشيرته، والتي على رأسها تضييق الخناق عليه وعلى صحابته ودفعهم للخروج من مكة المكرمة وترك الأهل والمال والعشيرة والديار، والذي فيه من القهر ما لا يوصف وفيه من الوجع والهم ما لا تحصيه الكلمات ولا تحيط بقسوته العبارات.
وقد أخبرتنا السيرة النبوية وكتبها أن ذلك الأمر لم يكن سهلا أبداً ولم يكن هيناً على النبي “صلى الله عليه وسلم” ومن ذلك حديث عبداللَّهِ بْنِ عَدِيِّ ابْنِ الْحَمْرَاءِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ “عليه الصلاة والسلام” يَقُولُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ فِي سُوقِ مَكَّةَ: وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)، رواه أحمد وابن ماجة والترمذي.
وأكد ذلك المعنى حديث ان عباس”رضي الله عنه وأرضاه”، حيث يقول فيما يرويه عن رسول الله “صلى الله عليه وسلم“: (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وأَحبَّكِ إلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ)، ولعل هذا يثبت أن حب الوطن والانتماء إليه والتعلق به من سلامة الفطرة وحسن الإيمان، والتنكر له والجحود لفضله أو رفضه والنفور منه دليل على فساد الفطرة وتلوثها واعوجاجها.
ومن ثم يجدر بنا ونحن نمر بمراحل حرجة وفاصلة في تاريخنا وفي صناعة حاضرنا ومستقبلنا أن نتحدث عن (متطلبات الولاء والانتماء للوطن) وما يقتضيه هذا المفهوم وما.
وهنا يجدر بنا أن نعرف بدقة معنى الولاء ومفهومه في اللغة، فالولاء لغة يعني معان كثيرة ومتعددة من بينها، القرابة والقرب، والصلة والملك والإخلاص والمحبة والطاعة والنصرة، ومن ذلك يفهم أن الولاء للوطن يعني نصرته ومؤازرته والإخلاص له، والقرب والإخلاص والطاعة التي تقتضي صلاح حاله ومآله.
أما الانتماء لغة فيعني الانتساب إلى شيء ماء والارتباط به، ويؤخذ من ذلك أن الانتماء إلى الوطن هو الانتساب إليه والارتباط به وجدانياً ومعنوياً وفكرياً ومادياً أيضاً، فكل مواطن ينتسب إلى وطنه ويحسب عليه ويعامل كجزء من كل هو الوطن بكل ما فيه.
أما ما يقتضيه الولاء والانتماء إلى الوطن وما يفرضه على كل مواطن حر شريف فيشمل أموراً عديدة لعل من أهمها وعلى رأسها ما يلي:
نصرته والدفاع عنه في السلم والحرب
إن أوجب الواجبات على الإنسان الذي يحمل لوطنه معنى الولاء ويحقق في ذاته وشخصه معنى الانتماء أن يناصر وطنه ويدفع عنه كل سوء يهدده، ويؤيده ويؤازره في رحلته سواء كان ذلك في السلم أو في الحرب، ففي السلم ينبغي أن يجعل من نفسه عضواً نافعا وكياناً إيجابياً فاعلاً يساهم في دفع عجلة التنمية والتقدم ويكون عامل بناء وليس عامل هدم أو زعزعة أو غيره.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم
الحمد لله والصلاة والسلام على خير الخلق وإمام المرسلين وسيد الغر المحجلين، وشفيعنا وحبيبنا وطوق نجاتنا يوم لا ينفع مال ولا بنون، ويوم المشهد العظيم والخطر الجسيم والمرور على الصراط، ومن بالصلاة عليه تهون الصعاب وتدرك الغايات، وتبدل السيئات فتصير جبالا من الحسنات، ثم أما بعد!
نعود للحديث عن (متطلبات الولاء والانتماء للوطن) ومقتضياته وما يفرضه على المواطن من واجبات والتزامات فنكمل ما بدأناه من النقاط:
العمل بفاعلية وأمانة وإخلاص بغية الارتقاء به
إن الدفاع عن الوطن وقت الحرب والموت لأجله ومواجه المخاطر بغية نصرته وإن كان واجبا حتمياً على كل أبنائه ومن ينتمون إليه إلا إنه في النهاية يخص فئة معينة من الشعب، ومجموعة من الأبطال والذين سخرهم الله للدفاع عنه أما واجب العمل بفاعلية وإتقان وأمانة لأجل النهوض به فإنه واجب يومي ودائم ومستمر، واجب بمثابة فرض العين على كل مواطن في موقعه وفي عمله أيا كان هذا الموقع وأياً كان نوع العمل أو المهنة التي يمتهنها.
فالإتقان والعمل بما يرضي الله مظنة الخير والبركة ومجلبة للرفاهية والنماء والارتقاء بالاقتصاد كماً ونوعاً، والارتقاء بسمعة وطن والوصول إلى مستوى متطور من الانتاج وتحقق التقدم.
فالمعلم حين يتقن عمله ويتق الله في رسالته يقدم لوطنه جيلاً صالحاً واعياً قادرة على صنع مستقبل باهر، والطبيب حين يتقن عمله ويتق الله فيما ولاه من صحة الناس وسلامتهم فإنه ينهض بوطنه ويداوي أمراض مجتمعه، ويخفف من أوجاع هذا الوطن، وحين يوفر للناس الرعاية الصحية التي يحتاجونها يوفر على الوطن الكثير من الخسائر في الأرواح والأموال، والمهندس والعامل والمزارع والتاجر والصانع جميعهم حين يتقنون عملهم ويتطلعون إلى صالح أوطانهم من موقعهم يساهمون في تكوين صورة طيبة لهذا الوطن، ويساهمون في جهود متكاملة تهدف إلى الارتقاء به وتنميته على كل المستويات.
ومن الملفت للنظر أن هذه الدعوة إلى الاتقان والإخلاص في العمل سراً وعلانية هي دعوة إسلامية، ومنهج شرعي من الطراز الأول، فكلنا نعلم مكانة الاتقان في الإسلام والحث عليه، ويكفي في ذلك ما أخبرنا به نبينا “عليه الصلاة والسلام” حين قال: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه).
عدم اهدار طاقاته وعدم المساس بمقدراته
ثم ننتقل إلى مطلب آخر وواجب يقتضيه الولاء والانتماء إلى الأوطان وهو ضمن السعي للارتقاء به والعمل على نموه وإصلاحه وهو الحفاظ على طاقاته وموارده وعدم اهدارها أو المساس بها، أو تبديدها في غير ما خصصت له وما صنعت لأجله، ولا عجب إن إهدار المال العام والعبث بمقدرات الوطن هو ضرر بالغ وأذى محقق حين يلحقه المرء بوطنه بصورة أو أخرى فإن ذلك ينفي عنه الانتماء ويقدح حتما في ادعائه الولاء، فمن كان ولائه وانتمائه لكيان ما راعى صالحه وحافظ عليه، وبذل قصارى جهده لإنقاذه من التلف أو الضرر.
ومما لا شك فيه أن جميع المواطنين وأبناء الوطن شركاء في هذا الواجب ومتساوون فيه، وكل منهم له القدرة على اهدار شيء من المال العام كما لديه الصلاحية للحفاظ عليه وحمايته أيا كان موقعه أو منصبه أو مكانته.
مراعاة صورته ونقل صوة طيبة عنه من خلال القول والفعل والسلوكيات
من ضمن مقتضيات الولاء والانتماء ومتطلباته أن يعي المواطن معنى أنه جزء من بلده، وكيان ينتمي إليه ويحسب عليه، فمتى كان ظاهره وباطنه يدل على الخير والصلاح وينطق بالرقي والتطور، حكم من خلاله على وطنه، ومتى كان جوهره ومظهره وسلوكه يشير إلى التخلف أو الرجعية أو يعكس بعض القيم السيئة غير السوية مثل العنف أو التطرف أو غيره مما يذم الناس به حكم على موطنه وبلده بهذه الأمور، فيصير الوطن متهما بما يفعله أفراده من السلوكيات، وما يقوم به أبنائه من الأفعال.
ولا غرو فالعالم بأسره يقيم بعضه البعض بما يرى من سلوك الأشخاص أو المنظمات، فمن كان محبا لوطنه ينتمي بحق إليه يجب أن يأخذ على عاتقه مهمة توصيل صورة طيبة عنه، ونفي ما ألصق به من دعاوى العنف أو التطرف أو الارهاب أو غيره، وذلك من خلال التزام الرقي في القول والعمل والسلوك.
الاعتراف بفضائل الوطن وتعزيز قيم المواطنة وتقدير الوطن ومحبته لدى الأجيال القادمة
من متطلبات الولاء والانتماء أيضا أن يقدم المواطن لوطنه جيلاً من الأبناء الصالحين الفاعلين في بناء الوطن، المقدرين له ولنعمه ومكانته، والعاملين على النهوض به الذين يعتزون بالانتماء إليه ويسعدهم الدخول تحت لوائه، وهذا مرجعه إلى القيم التربوية والطرق السلوكية التي تغرس فيهم منذ نعومة أظفارهم.
وفي الختام
فإننا نوجه دعوة إلى كل مسلم موحد أن يتق الله في وطنه وأن يسعى إلى ما فيه الخير له فهو موطنه وموطن أبنائه من بعده، حمى الله أوطاننا من كل سوء، وأنجاها من جميع الفتن ما ظهر منها وما بطن، ووفق ولاة الأمور إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد، وجعل بلادنا آمنة مطمئنة سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
انتظرونا أيضًا خطبة الجمعة القادمة الرسمية، متطلبات الولاء والانتماء للوطن “PDF” فور صدورها.