كانت الهجرة النبوية نقطة تحول ومبدأ تاريخٍ جديد وانطلاقة أُمَّة، فقد كان طريقها شائِكا تحت ظِلال السيوف وفي وَحشة الغار، وتحت إرهاب الطلب، تحفّ بها وعثاء السفر على الرواحل وسط الصحراء، بدلالةٍ مُشرك في طريق غير مأهول. بينما السابق أو نحوه، كانت هناك هجرة أُخرى أطول مدى وأبعد كُنها وأكثر استطلاع، وكانت أسرع زمنا وأقل مؤونة؛ بعيدة عن المخاوف، مُجانبة للأخطار، رحلة امتدت من مكة إلى أرض النبوات “بيت المقدس”، واتصلت إلى السماء؛ إنها حادثة الإسراء والمعراج.
تلك التي رأى فيها من آيات ربه الكبرى. فجِيء إليه بالبراق يضع رجله حيث ينتهي طرفه، وكان رفيقه ودليله جبريل -عليه السلام-.
- فبالأمس كانت رحلة شخصية يأتيه فيها البراق، واليوم رحلة دعوة وتثبيت دين، يرحل فيها على بعيره.
- وبالأمس دليله جبريل، واليوم عبد الله أُريقط، وهو على دين قومه.
- بالأمس يخرج من بيته إلى بيت المقدس والرسل في استقباله، واليوم يخرج من بيته إلى الغار والطلب من خلفه.
- بالأمس يؤم الأنبياء في قِبلتهم، واليوم يصلي وحده في الغار.
- بالأمس رفيقه جبريل يبين له أحوال الملأ الأعلى، ويشرح له ما يشاهده في السماء؛ واليوم يطمئن روع صاحبه، ﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾.
فهل كانت الرحلة الأولى أعظم خطرا، أو هو في الثانية أقل شأنا؟ حاشا وكلا. ولكنه النمو في الدعوة، والكمال في الداعي، والتعليم السماوي، وتكريم الله لنبيه، وإهانته لعدوه.
لقد كانت الأولى رحلة بمثابة دعوة لزيارة عالَم تكريما لأهل الأرض، في شخص خاتم النبيين ﷺ. كما أنها بمثابة اطلاعٍ على أسرار هذا الكون، ونتائج تلك الأديان، وعامل ربطٍ بين بني العلات من الأنبياء، في لقاء شخصي كأنه استطلاع عن الماضي بما كان من أممهم معهم، كما قال له موسى -عليه السلام-: لقد بلوت الناس قبلك، فلم يُطيقوا أقل مما كُلفت أنت به. ارجع إلى ربك، فسله التخفيف.
واستطلاع للمستقبل، بما رآه ﷺ من الجنة وأهلها، والنار وأهلها، وما سيؤول إليه كل فريق. فبهذا كانت تكريمًا وتبجيلا. فجاءه البراق، ورافقه جبريل -عليه السلام- والتقى بالأنبياء واطلع الملأ الأعلى.
ويمكننا بعد ذلك أن نقول: إذا كان الإسراء إعدادا للقائد فقد كانت الهجرة إعدادا للأمة.
في غزوة بدر كان هناك جيشٌ وكان هناك استعداد، وفي ضوء هذا يُمكن للنفس الإنسانية في لحظةٍ من لحظات الاغترار، أن تعتمد على قوتها، ومن أجل ذلك وتلافيا لذلك نرى الرسول ﷺ يتضرع إلى الله ﷻ إلى الحد الذي يسقط فيه رداءه، بينما أبو بكر رضي الله ﷻ عنه يناشده أن يُخفف عن نفسه هذا العناء.
أما في الغار؛ فقد اختلف الموقف، لم يكن هناك جيش، ولا عُدد ولا عتاد. ومن أجل ذلك كان الاطمئنان الواثق في قلب الرسول ﷺ، لأنه ما دامت الوسائل البشرية معدومة فإن نصر الله ﷻ قريب.
من أجل ذلك اختلف الموقف بين غزوة بدر وبين الغار على هذا النحو.
إنها دروس أبلغ من كل مقال، وأن هذا الموقف الخاشع الضارع في غزوة بدر، وأن هذه الثقة المطمئنة داخل الغار لهي مثلٌ أعلى يتمثله الرسول ﷺ أمام البشرية لتظل دائِما موصولة القلب بخالقها ﷻ، ولا تعتمد على الوسائل البشرية في تحقيق النصر، لأن النصر أولا وأخيرا من عند الله ﷻ، ودور الإنسان أن يأخذ بالأسباب فقط. أما النتيجة فعلى الله.
نام علي -رضي الله ﷻ عنه- في فراش الرسول ﷺ، وهو يعلم أنه قد يدفع حياته ثمنا لهذا التكليف الصعب. وعلي رضي الله ﷻ عنه بشر، وشاب؛ فهو إذًا يحب الحياة.
ولقد أدرك الرسول ﷺ ذلك، فبشره بأنهم لن يخلصوا إليه بما يكره.
ثم بشر المؤمنين لحظة تكليفهم بالهجرة بأن الله ﷻ جاعِل لهم فرجًا ومخرجًا. وهكذا يتدخل القائد المربي، ليعين المسلم على نفسه، حتى لتحمل مسؤولية الموقف الصعب.
وعلى حُداء الأمل صار الموكب الميمون. ومع هذا وفوق هذا؛ ينزل الوحي الأعلى ليربط على قلب الرسول ﷺ، والمؤمنون معه؛ ليظل نهر الأمل دافقا بالعطاء، وذلك ما يشير إليه قوله ﷻ ﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا﴾.
يقول المفسرون: وهذه بِشارة أخرى؛ أن الله ﷻ أذن لرسوله ﷺ بالهجرة من تلقاء نفسه، لا بإخراج قومه وهو كاره. فقال له ﷻ: قل في دعائك يا محمد “رب أدخلني المدينة، دار هجرتي، مُدخل صِدق. بحيث لا أرى فيها مكروها. وأخرجني مكة، يوم تخرجني، مُخرج صدق، غير ملتفت إليها بقلبي شوقا وحنينا إليها، واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا. أي: وسلني أن أجعل لك من لدني سلطانا نصيرا لك على من بغاك بسوء، وكادك بمكر وخديعة، وحاول منعك من إقامة دينك.
ولاحظ، أن الحق ﷻ هو الذي يخاطبه، وفي هذا من الإيناس وبسط النفس ما فيه، وأن الذي يخاطبه هو القاهر فوق عباده، القادر على تحقيق الأمل، وفيه من الثقة بالنصر ما فيه.
ولنتأمَّل الآية الكريمة، لنذكر ما لاحظه المفسرون، وهو أن الله ﷻ قدَّم الدخول على الخروج في الآية الكريمة، ﴿رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْق﴾.
- أولا: تحديا للمشركين، بأن تمكينه من الخروج مفروغ منه، ولا يدخل في دائرة الجدل.
- ثانيا: تلطفا به ﷺ، وتمكينا للأمل في نصر الله والفتح.
- ثالثا أن ذلك إعلانٌ مُسَبَّق بنجاح الهِجرة، وقبل أن تتم. لأن ضمان الدخول يتضمن سلامة الخروج طبعا.
ختامًا؛ لديّ بعض التوصيات والاقتراحات من أجلك:
- فتقرأ هنا مقالًا حول: المجتمع الإسلامي في مكة قبل الهجرة النبوية
- وتجد كذلك: محاضرة عن الهجرة النبوية
- ثم يجد أهل الخطابة تحديدًا: خطبة عن الدروس المستفادة من الهجرة النبوية
- وختامًا؛ مع: كلمة قصيرة بمناسبة ذكرى الهجرة النبوية.. بعنوان «فضيلة الصبر»