مقدمة عن المولد النبوي
إننا بصدد الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف 2022، والذي فاحت نسائمه العطرة ولاحت على البعد بركاته وأنواره، فأثارت فينا شوقًا دفينًا إلى سيدنا وحبيبنا ونبينا وشفيعنا ومصطفانا محمد (صلى الله عليه وسلم)، فراح العالم الإسلامي بكل كياناته يحتفل ويحرص على استقبال المولد النبوي بكل ما أوتي من الحب والشوق.
ويختلف الاحتفال من فئة إلى أخرى ومن شخص إلى آخر، ولكن تظل نقطة الاتفاق هي الحرص على الاحتفال بتلك المناسبة الغالية على قلوبنا والمقدسة في قناعاتنا، فالكل يردد عبارات الحب والشوق، والكل يمتدح النبي علي الصلاة والسلام، ويحلو بذكره الكلام، ويتبارى في وصفه العارفين والمبدعين والشعراء، فيقولون فيه ما يضيق المقام عن ذكره، ويعجز اللسان عن وصفه ومن أطيب الكلمات التي وصفته (صلى الله عليه وسلم) قول القائل:
محمد سيد الكونين والثقلين — والفريقين من عرب ومن عجم
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته — لكل هول من الأهوال مقتحم
فاق النبيين في خلق وفي خلق — ولم يدانوه في علم ولا كرم
فانسب إلى ذاته ما شئت من شرف — وانسب إلى قدره ما شئت من عظم
فمبلغ العلم فيه أنه بشر — وأنه خير خلق الله كلهم
صدق القائل وما وفى فضل الحبيب المصطفى، وما أحصى شمائله ولا أحاط بمكانته وقدره.
وهنا في مقام ذِكر النبي ومولده يجدر بنا أن ندنو من بستان سيرته العطرة، وندلف إلى ملامح حياته الشريفة، نتعرف عليه وعلى مولده، ونشأته وكيف تغير حال الدنيا بمقدمه، وكيف احتفل الكون كله بمجيئه، وكيف كان -عليه الصلاة والسلام- دعوة الحق، وكلمة الحق، ونبي الحق، وحامل لواء الحق والعدل في رسالته، وهنا سنحاول الاقتراب من رياض قصة حياة النبي وأن نقطف بعض ما تسير لنا من ثماره الطيبة، في محاولة جادة للارتقاء بمعرفتنا بحياة نبينا الكريم وسيرته ومواقفه، والتعلم منه والسير على خطواته، ونسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، وبكل ما تخطه أقلامنا، وأن يجعله حجة لنا لا علينا، وينفع بنا إنه ولي ذلك والقادر عليه.
حال الجزيرة العربية قبل مولد النبي (ﷺ)
كانت شبه الجيرة العربية والعالم المحيط بها كله قبل مولد النبي (صلى الله عليه وسلم) غارقًا في ظلمات الجهل والضلال، وكانت تحكمه قيم فاسدة ومفاهيم وقناعات مغلوطة على كل المستويات، فكانت السمة الغالبة على هذه الحقبة الفساد العقائدي والاجتماعي والسياسي أيضًا.
تجاور شبه الجزيرة العربية من جهة الجنوب أرض الحبشة، والتي كان يدين أهلها بالمسيحية، ومن جهة الغرب الامبراطورية الرومية والتي كانت تدين بالمسيحية أيضَا، أما في الجهة الشمالية فكانت تجاورها مملكة الفرس التي تدين بالمجوسية، وبالقرب منهم تقع مصر وبلاد الهند التي تدين بالوثنية، أما العرب أنفسهم فكان معظمهم يدين بالوثنية ويعبدون الأصنام.
كان لهذا الموقع الجغرافي المتوسط بين كيانات مجوسية ووثنية ونصرانية له تأثر كبير على العرب، وعلى طبائعهم ونمط حياتهم الذي جمع أخلاطًا من الديانات، والعادات المأخوذة من هنا وهناك، فضلا عن الطبيعة البدوية والجلية التي أضفت عليهم طابع القسوة والهمجية وهيمنة القوة البدنية على مظاهر الحياة، فكان القوي يستأثر بالغلبة يأخذ ما يشاء عنوة وبلا وجه حق، وكانت الغطرسة والفجر والقهر هي العناوين الأساسية التي تتصدر أسلوب الحياة في شبه الجزيرة العربية.
وقد كان عيش البدو حينئذ معتمدًا على الهجوم على الغير وشن الغارات وسلب الآخر رزقه وقوته، فكانت الحياة لا تعرف السلم ولا السلام ولا الشعور بالأمان ولا العدل، فدائمًا الغلبة للأقوى ومن يستطيع وضع يده وسحق غيره، بل الأدهى من ذلك أن معايير التفاضل بين الناس في ذلك الوقت كانت العصبية والكبر والحمية الجاهلية والحرب والظلم للغير، فكانوا يتفاخرون بينهم بالأنساب والأموال والطغيان والجبروت.
أما عن ملامح الحياة الأخلاقية والاجتماعية فكانت قبيحة أيما قح، مشوهة لا تعرف الجمال من قريب ولا بعيد، فسيطر الزنا والبغاء والفجور، وشرب الخمر والسكر والعربدة ولعب الميسر وأكل الميتة، وأكل مال اليتيم، والربا، وأكل أموال الناس بالباطل على المشهد برمته.
أما المرأة في هذه المجتمعات فكانت محرومة من أدنى حقوقها الإنسانية، ومن أدنى مراتب الكرامة أو الحرية، لا حق لها في ميراث ولا إرادة لها في تسيير حياتها، فهي وعاء جنسي فقط، كل مهمتها اشباع شهوات الرجل الحيوانية والتي ليس لها ضابط ولا رابط، وكانت المرأة الحرة التي تأبى الفجر تكره عليه إكراهًا وتقاد إليه قودًا، بلا حول منها ولا قوة.
وكان الرجل منهم يتزوج بما يشتهي من النساء بلا تحديد لعدد ولا أصول ولا قواعد.
وكان النساء يتبرجن ويبدين زينتهن لمن يحلو لهن، ففشا فيهن السفاح وانتشرت بينهن الفاحشة وعمت الرزيلة، فضلًا عن هذا كله فكانت المرأة عندهم رمز من رموز الخزي والعار ومجلبة للفقر، مما دفعهم إلى أسوا عادة عرفها التاريخ، عادة تستنكرها كل مواثيق الإنسانية وأعرافها وهي عادة وأد البنات، أو دفنهن أحياءً.
وكان بين العرب يعيش اليهود المعروفين بغلظتهم واشعال الفتن ونشر الفسق والظلم بين كل من حولهم، وبسيطرتهم على الجاهلين والأميين بكتبهم المحرفة وادعاءاتهم الباطلة ومعتقداتهم السقيمة.
وقد كان هناك اختلاف بين وسط الجزيرة العربية وأطرافها، فكانت مكة والمدينة والطائف ويثرب مثلا تتمتع باستقرار وحال أفضل من غيرها، وكان يحكمها شرذمة من السادة والأثرياء والشيوخ، وانقسموا إلى قبائل وعشائر تختلف في العادات والتقاليد والمعتقدات والسلوكيات ونمط الحياة.
وكانت غالبية المجتمعات منقسمة إلى طبقتين، طبقة الحكام المستبدة المسيطرة وطبقة المحكومين المستعبدة مسلوبة الإرادة والتي هي أداة لتحقيق إرادة الطبقة العليا.
وقد أطلق القرآن الكريم على تلك الحقبة بكل تفاصيلها المنحطة واللاإنسانية من حياة العرب كلمة واحدة شاملة جامعة مانعة (الجاهلية).
نجاة عبدالله بن عبد المطلب أبو النبي ﷺ
أسند إلى عبد المطلب مهمة الإشراف على بئر زمزم وسقيا الحجيج، ولكن تجرأ عليه بعض الجاهلين، فوقع في نفسه أن هذا ما كان ليحدث لولا قلة أولاده، فنذر لربه قائلا: لأن رزقني الله بعشرة ذكور لأذبحن أحدهم، وبالفعل رزقه الله بعشرة من الذكور وستة من الإناث، فلما بلغ أبناؤه أشدهم وبلغو الحلم وصاروا فتية يفخر بهم ويفرح برؤيتهم، تذكر عبد المطلب ذلك النذر الذي قطعه على نفسه، فتوجه إلى كاهن عند الكعبة ليعرف من يقع عليه اختيار الذبح.
رمى الكاهن عشرة أقداح كل منها يحمل اسما من أسماء أبناء عبد المطلب، فخرج اسم عبد الله وقد كان حينئذ أصغر أبناء عبد المطلب وأحبهم إلى قلبه، لكنه لم يجد بدًا من تنفيذ نذره، فأخذه إلى موضع ما لينفذ فيه الذبح، غير أن كبار قريش رفضوا ذلك وحاولوا منعه، خشية أن تصبح سنة في العرب فيلزم كل من له عشرة أولاد ذكور بذبح أحدهم، وعرضوا عليه أن يحتكم إلى كاهنة بني سعد، ففعل فأشارت عليهم بأن يلقوا قدحين أحدهما عليه اسم عبد الله والأخر عليه دية، والتي كانت تقدر بعشرة إبل، فإن خرج سهم عبد الله ضاعفوا الدية، حتى يخرج سهم الدية، وبالفعل ظلوا يضاعفون الدية حتى وصلت مائة من الإبل فخرج سهم الدية، فذبحت الإبل ونجا عبد الله، ولذلك كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول عن نفسه: أنا بن الذبيحين، يقصد إسماعيل عليه السلام، وعبد الله بن عبد المطلب.
وهكذا أنجا الله من الذبح من سيخرج من صلبه سيد الخلق أجمعين، إمام الأنبياء والمرسلين محمد -عليه الصلاة والسلام- في الأولين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.
زواج عبد الله بن عبد المطلب بآمنة بنت وهب
كبر عبد الله وشب عوده، فأراد أبوه أن يزوجه فاصطحبه ليخطب له آمنة بنت وهب، وكانت شريفة طاهرة مطهرة من نسل كريم لم يمسسه السفاح أبدًا، وبينما عبد الله وأبوه في الطريق التقت به امرأة جميلة من العرب فراودته عن نفسه، ودعته إلى الفاحشة، فامتنع لأنه بصحبة أبيه، فذهب وخطبها ودخل بها، فبينما هو عائد قابلته المرة ولم تتحرك من مكانها، فسألها عبدا الله عن سبب زهدها وهي التي كانت تراوده عن نفسه من قبل، فقالت: فارقك النور الذي كان بين عينك، فهذا نور محمد (صلى الله عليه وسلم)، الذي فارق عبد الله حين دخل بآمنة ووضع في رحمها ماءه الطاهر.
يُتم النبي (ﷺ) قبل مولده
لم يقض عبدالله مع زوجته أكثر من شهر، ثم خرج في تجارة إلى الشام، وبينما هو عائد إلى مكة قرر أن يزور أخواله من بني النجار وهم يسكنون المدينة، وبالفعل توجه إليهم وبمجرد نزوله بديارهم ألم به مرض شديد حتى توفي.
لم يكن يعلم عبدالله حين رحل أن زوجته حامل ولم تعلم آمنة بخبر وفاة عبد الله لفترة ثم جاءها الخبر مفجعًا وموجعًا، ويقول العلماء أن أشد أنواع اليتم أن يموت أبو الطفل ويتركه جنينا في بطن أمه، فلا يعرفه بالمرة ولا يأخذ من حنان الأبوة أدنى قدر، وهنا يبدو للمتأمل وكأن الله عز وجل ما رزق عبد المطلب بعبد الله، وما أنجاه من الذبح، ولا يسره للزواج من آمنة بنت وهب إلا لمهمة واحدة وهو أن يخرج من صلبه محمد، فبمجرد حمل آمنة يقترب منه أجله ويقترب هو من أجله وينتقل إلى الرفيق الأعلى في فترة لا تذكر.
نسب النبي محمد (ﷺ)
لا يليق بنا ونحن الذين نتتبع سير المشهورين والبارزين، ونتتبع كل ما يتعلق بهم ألا نكون على علم بنسب خير البرية عليه الصلاة وأتم السلام، والذي يمتد إلى سيدنا إسماعيل -عليه السلام أما نسبه من جهة أبيه فهو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن إسماعيل بن إبراهيم.
وأمه (صلى الله عليه وسلم) هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن حكيم ابن مرة الذي هو الجد الخامس للنبي (صلى الله عليه وسلم) من جهة أبيه.
فأبو النبي (صلى الله عليه وسلم) وأمه يجتمعان في حكيم بن مرة (وكان يسمى كلابا)، ونسب الرسول -صلى الله علي وسلم يمتد في نسل فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- وعلي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه-.
ارهاصات النبوة التي ظهرت في فترة حمل السيدة آمنة بالنبي ﷺ
ان النبوة وهبت للرسول (صلى الله عليه وسلم) ليس قبل مولده ولا في فترة حمله بل قبل أن يخلق آدم -عليه السلام-، وقبل أن تنفخ فيه الروح، وقد دلنا على ذلك قول النبي (صلى الله عليه وسلم) عن نفسه-: (كنت نبيًا وإن آدم لمنجدل في طينته)، (كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد)، فكان جميع الأنبياء من لدن آدم عليه السلام وحتى آخر نبي قبل النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- يبشرون به، وقد أخذ الله عليهم ميثاقًا أن يؤمنوا به ويتبعوه ويؤيدوه، وكل نبي كان يدعو قومه أنه إن ظهر فيهم رسول الله أن يتبعوه ويؤمنوا بدعوته فقال عز وجل في كتابه الكريم: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).
فالنبي (صلى الله عليه وسلم) نور وقد خلق قبل البشر، فقد حدث النبي (صلى الله عليه وسلم) جابر بذلك فقال: (اعلم يا جابر أن أول ما خلق الله نور نبيك).
ثم اقتضت إرادته وحكمته أن يخلق سيدنا ومحمد ويظهره للوجود في صورته البشرية وهيئته الشريفة الكريمة المكرمة، وقد مهد لذلك منذ خلق الكون، وبشر به النبيون وتضافرت تدابير الله في أقداره، بحفظ أبائه واجداده وأبويه من دنس الخطيئة، وحتى مفارقة نجاة أبوه من الذبح واتمام زاوجه بأمه، ثم رحيله بعد انتهاء رسالته.
اختص الله آمنة بنت وهب الطاهرة المطهرة بأن تكون صاحبة الرحم الذي يحمل خير البرية، ومنذ لحظات الحمل به وحتى قدومه حدث الكثير من المعجزات والبركات والخيرات والأنوار، استبشارًا بقرب قدومه الشريف، ومن ذلك ما يلي:
حادثة الفيل وما فيها من المفارقات والآيات
قد يظن البعض أن حادثة الفيل هي حادثة خاصة بالبيت الحرام وأنه لا علاقة لها بالنبي -صلى الله عليه وسلم، بينما يرى البعض الآخر أن حادثة الفيل وما انطوت عليه من رد الظلم عن البيت الحرام وحماية الله له ولأهل قريش عامة من الدخول في قتال مع ابرهة أو حدوث اعتداء منهم أو هجوم أو غير ذلك، كان ضمن ترتيب الله وعنايته وحفظه لنبي الله -محمد صلى الله عليه وسلم، وأمه من أي ضرر أو خطر أو عار، ولا عجب فقد تزامن حادث الفيل مع الأشهر الأخيرة من حمل السيدة آمنة بنت وهب بالنبي عليه الصلاة والسلام، وجاء يوم مولده ﷺ بعد تلك الحادثة بخمسين يوم فقط على أرجع الأقوال.
وحادثة الفيل ثابتة في القرآن الكريم، حيث حاول ابرهة الحبشي هدم بيت الله الحرام، رغبة منه في تحويل الحج إلى البيت الذي بناه، ونظرًا لضعف العدة والعتاد وعدم إمكانية القتال فقد كفل الله لبيته الحماية دون أن تفعل قريش أي محاولة ولا تبذل أي جهد، وعن حادثة الفيل وما فيها من الكرامة التي أريد بها النبي يقول ابن تيمية: (و كان جيران البيت مشركين يعبدون الأوثان و دين النصارى خير من دينهم فعُلِم بذلك أن هذه الآية لم تكن لأجل جيران البيت حينئذ بل كانت لأجل البيت أو لأجل النبي صلى الله عليه و آله وسلم، الذي وُلِدَ في ذلك العام عند البيت أو لمجموعهما و أيّ ذلك كان فهو من دلائل نبوته”.
خروج نور من أمنة بنت وهب أثناء حملها بالنبي (ﷺ)
عن لقمان بن عامر قال سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَة يقول:( قُلْتُ يَا نَبِيَّ الله ما كان أَوَّلُ بَدْءِ أَمْرِك؟ قال: نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى، ورأتْ أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام).
وفي هذا الحديث تأكيد لما ورد أن آمنة بنت وهب لما كانت حامل في سيدنا -محمد صلى الله عليه وسلم – رأت وكأن نورًا يخرج من بطنها يضيء قصور الشام، فقصت رؤياها على قومها ففهم من فهم منهم أنها تحمل في أحشائها جنينا غير الناس، وأنه سيكون له شأن، ورؤية النور إشارة إلى ما سيحمله للعالم من الهداية والضياء وإظهار الحق وإبطال الباطل.
كما تحكي أمه عليه الصلاة والسلام أنها لم تجد في حملها ما تجده سائر النساء من الألم أو التعب، وكذلك ولادته.
ظهور نجم أحمد
يقول الله عز وجل في محكم التنزيل: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين).
فقد كان اليهود والنصارى يعرفون أنه نبيًا يقال له أحمد سوف يبعث آخر الزمان، وسوف تكون بعثته من الجزيرة العربية، بل ويعرفون أوصافه التي بينتها لهم التوراة والإنجيل، وكانوا يعرفون أن في السماء نجم للنبي -صلى الله عليه وسلم، سيختلف عن غيره من النجوم وله خصائص مميزة، ومما حكته كتب السيرة عن ابن إسحاق عن حسان بن ثابت رضي الله عنه، قال (فيما معناه): كنت بن سبع أو ثمان سنين أعقل كل ما اسمعه إذ سمعت يهوديًا يصرخ بأعلى صوته: يا معشر اليهود، حتى اذا اجتمعوا قالوا: ويلك مالك؟ قال طلع نجم أحمد. فعرف اليهود أن النبي قد وُلد، وقدموا إلى مكة.
سقوط إيوان كسرى
من الإرهاصات التي وصلنا من بعض الأثار أنها تزامنت مع مولد النبي (صلى الله عليه وسلم)، سقوط أربعة عشر شرفة من إيوان كسرى، كما يقال أن النار التي يعبدها المجوس قد خمدت في ذلك اليوم، وأن عددًا من الكنائس حول بحيرة ساوة قد تهدمت.
وفي الواقع برغم شهرة هذه الأخبار ومجيئها في الكثير من الأثار إلا أن البعض ينكرها محتجين بأن التاريخ لم يسجلها، ولم تنسب إلى مصادر موثقة، مع كونها جديرة بالتسجيل والتأريخ.
وعلى أية حال سواء كانت تلك الأخبار حقيقة أم لا فهذا لا ينفي أن ميلاد النبي (صلى الله عليه وسلم) كان حدثًا استثنائيًا بكل المقاييس، وأنه صحبته البركات والإرهاصات وأن الكون كله استعد وتأهب لاستقباله، وقد كان مولده إيذانًا بانكشاف عتمة الجاهلية التي غرق فيه العالم بأسره، وأن أنوار بعثته ستشرق على الدنيا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فصلى الله وسلم وبارك على نبي الحق والعلم والهدى من جاء رحمة للعالمين، وكان ختام النبين والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
إرضاع النبي صلى الله عليه وسلم
كان من عادات العرب أن يرسلوا الأطفال إلى البادية لإرضاعهم، اعتقادًا منهم أن ذلك يقيم أبدانهم ويجعلهم أقوياء وأصحاء، وكان ذلك لقاء أجر يتفقون عليه، ولما ولد النبي (صلى الله عليه وسلم) عرضه جده وأمه على مرضعات بني سعد، فزهدن فيه ولم يقبلنه نظرًا ليتمه وتخوفا من أن لا يجدن من يكرمهن أو يقضي لهن أجورهن، وكان من بينهن مرضعة واحدة لا تجد طفلًا ترضعه، وهي حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، وزوجها الحارث بن عبد العزى، وكانت قد خرجت هي وزوجها ومعها طفل رضيع، وهم في أشد حالات فقرهم وبؤس عيشهم، ولا يملكون إلا ناقة عجوزًا لا تدر اللبن ولا تأتي بخير، وحمارًا يحملهم في سفرهم، خرجوا من بني سعد وتوجهوا إلى مكة المكرمة باحثين عن طفل يتولون إرضاعه، ولم يعرض عليهم أي طفل سوى -النبي صلى الله عليه وسلم- فأخذته كراهة أن تعود إلى دارها صفر اليدين، فأخذت الطفل اليتيم لأنها لم تجد غيره.
ومنذ اللحظات الأولى من وضعه في حجرها امتلأ ثديها بالحليب فشرب النبي(صلى الله عليه وسلم) وشرب أخوه حتى شبعا، وقام زوجها إلى الناقة العجوز النحيلة فحلبها فجادت عليهم بالحليب الوفير مما أشبع جوعهم، وجعلهما ينامان في خير حال، وبدأ يتبدل حال حليمة السعدية وزوجها وتحل بهما البركة من حيث الا يحتسبون، فمكث النبي عندهما حتى الفطام وقد كان يشب بصحة وقوة فأعادته حليمة إلى أمه وهي كارهة لفراقه وفي حاجة إلى بركة وجوده.
ولم تكن حليمة السعدية هي الوحيدة التي أرضعت النبي (صلى الله عليه وسلم) بل أرضعته كذلك ثويبة مولاة أبي لهب، والتي كانت ترضع ولدًا لها يقال له مسروح، وربما كان ذلك قبل أن تأخذه حليمة السعدية.
وقد كان للنبي أخوة من الرضاع لأميه (مرضعتيه)، ثويبة وحليمة، أما اخواته من أمه ثويبة فكانوا حمزة بن عبد المطلب، وأبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، ومن حليمة السعدية كان اخوته أنيسة بنت الحارث، وعبد الله بن الحارث، وحذافة بنت الحارث التي كانت تعرف بالشيماء، وجميعهم أبناء حليمة السعدية.
حادثة شق صدره الشريف
من الحوادث والإرهاصات الفارقة في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) حادثة شق الصدر، والتي فيها اشارة إلى عصمة النبي (صلى الله عليه وسلم) وتطهير قلبه ونفسه مما تحمله قلوب البشر، وتهيئته -عليه السلام- لحمل الأمانة، فهو المحفوظ من الزلل المعصوم من الذنوب من لدن الله عز وجل.
وعلى أرجح الأقوال فإن تلك الحادثة وقعت للنبي وهو صغيرًا وكان لا يزال في ديار بني سعد، ومما يثبت وقوع هذا الأمر ما ورد عن أنس -رضي الله عنه- إذ قال: (بينما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) مع الغلمان، جاءه جبريل-عليه السلام- فأخذه وصرعه، ثم شق صدره واستخرج منه علقة، وقال: (هذا حظ الشيطان منك)، ثم جاء بإناء من ذهب فيه ماء زمزم، ثم غسله، وجمع بعضه إلى بعض، وأرجعه إلى صدره) ثم يقول: فظن الغلمان أن محمدًا قد قتل، فأسرعوا يخبروا أمه، وكان يقول: (أي أنس): كنت أرى أثر الخيط في صدره.
أما ثبوتها في الكتاب فقد جاء في سورة الشرح إذ يقول عز وجل: “ألم نشرح لك صدرك | ووضعنا عنك وزرك | الذي أنقض ظهرك | ورفعنا لك ذكرك | فإن مع العسر يسرا | إن مع العسر يسرا | فإذا فرغت فانصب | وإلى ربك فارغب”.
طفولته ﷺ ورعايته
قدر الله عز وجل لنبيه أن يحرم من نعمة الأبوة، ولكن سخر له من القلوب من ترفق به وتحبه وتتولى رعايته على الرحب والسعة، ويمكن القول أن كفالته (صلى الله عليه وسلم) كانت على مراحل أولها مرحلة كفالة أمه آمنة رضي الله عنها، والتي تولت رعايته وتربيته منذ أن عاد من بني سعد بعد مرحلة الفطام، وكان يعينها في ذلك جده عبد المطلب، وحين بلغ السادسة من عمره، أرادت أمه آمنة أن تأخذه في زيارة لديار أخواله بنو النجار في المدينة المنورة، وبعد أن أتمت زيارتها وفي طريق عودتها إلى مكة المكرمة، حان أجلها وتوفيت في منطقة يقال لها الأبواء.
فعادت مع النبي (صلى الله عليه وسلم) حاضنته أم أيمن، والتي كانت توليه الرعاية والاهتمام بعد وفاة أمه، وقد كان يقول عنها النبي (صلى الله عليه وسلم) اعترافًا بفضلها: هي أمي بعد أمي.
ثم تأتي مرحلة ما بعد وفاة أمه والتي انتقلت فيها كفالته إلى جده عبد المطلب الذي كان يحبه جدًا، ويقربه منه، ويرعاه، ويرفع منزلته عنده، حتى يقال أنه كان لعبد المطلب فراش يوضع في ظل الكعبة، لا يجلس عليه أحد، إلا حفيده الأثير محمد-صلى الله عليه وسلم، فكان كلما ذهب أعمامه ليبعدوه يقول: دعوه فإن له لشأنًا، وظل هكذا حتى دنا أجله فأوصى ابنه أبو طالب بكفاته، وتركه وهو في سن الثامنة من عمره.
انتقلت الكفالة لعمه أبو طالب ولم يكن أغنى أبناء عبد المطلب ولا أكبرهم سنًا، ولكنه كان أعلاهم قدرًا وأنبلهم خلقًا، وأطيبهم نفسًا، وأشدهم حبًا للنبي (صلى الله عليه وسلم)، فكان يعامله كأحد أبنائه أو أفضل، ويشاركه طعامه ومحل نومه ويأثره ويكرمه أيما كرم، ولقد حلت بركة النبي -صلى الله عليه وسلم بأبي طالب وبيته وعياله، وما زاد حب عمه له حسن خلقه، وجميل طباعه وشمائله، وصباه الكريم الطاهر.
ومن مظاهر حُب أبي طالب لابن أخيه أنه حين خرج في تجارة إلى الشام اصطحبه معه وهو ابن الثانية عشر من عمره، ومما زاد حبه له أكثر وخوفه عليه ومساندته له فيما بعد ما رآه من علامات النبوة والبركة والبشارات في تلك الرحلة، مثل الغمامة التي كانت تظله، وميل الشجرة عليه لتظله، وتبشير بحيرة الراهب لعمه بما يكون من شأنه.
وهكذا كفل الله لنبيه العوض عن اليتم والحرمان من الأب والأم، بأن رقت له القلوب وأحبته، فلم يعاني اضطهادًا ولا مذلة ولا شيء من ذلك على الإطلاق، بل كان ريمًا عزيزًا في أهله، أثيرًا عندهم، ممدوحاً منهم ومشكورًا بينهم (صلى الله عليه وسلم).
حكم الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف
إن ميلاد سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) نعمة الوجود أزلًا، حين اقتضت إرادة الله أن يكون محمد آخر أنبياء الله، وأبدًا حين جعله نبي كل زمان وكل مكان، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وحتى يجمعنا به في مستقر جنته ودار مقامته بإذن الله، والاحتفاء بمولده هو آية حب لا تخفى على ذي لب.
وحين يتعلق الأمر بالنبي (صلى الله عليه وسلم) فيجب أن نحتفل بكل أيامه، فقد قال تعالى (وذكرهم بأيام الله) وأيام الله هي نصر رسله وعباده المؤمنين على أعدائهم من الكفار والملحدين، أيام الله تتجلى في بعثته عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين، وفي هجرته، وفي تلقي الوحي، وفي مولده الذي هو بداية كل ذلك والمؤدي إليه.
ولأن الأيام تسعد بما يجري فيها من الأحداث، فإن يوم مولد النبي من أسعد أيام الدنيا، وأطيبها وأروعها، وهو اليوم الذي أثمر كل الأيام الطيبة التي تلته وترتبت عليه، كأيام انتصاراته (صلى الله عليه وسلم) وهجرته وبعثه، والاسراء به وغيرها من الأيام المباركة الطيبة التي تكونت منها حياة النبي -صلى الله عليه وسلم.
فقد اصطفى الله نبيه من أخيار الأخيار، وجاء إلى الدنيا بنكاح سليم مشروع، كنكاح الإسلام، طاهر محفوظ من شوائب الفساد أو البطلان، فكان طاهرًا مطهرًا صفيًا لذلك وأكثر ينبغي أن يفرح المسلمون بمولد خير البرية، ويستشعروا قيمة نعمة الإسلام، ولعل معنى الاحتفال الذي هو من الحفاوة والاحتفاء والتقدير والاحترام من الأمور الواجبة تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم- وتجاه كل ما يتعلق به أو يمت إليه بصلة، وهذا لا خلاف عليه.
بينما تظل هناك نقطة خلاف تثار كل عام وتثير الجدل وهي نقطة حكم الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف! وكيفيته، واعتقاد الناس حوله، ولا يليق بنا أن نمرر هذا المبحث الهادف القيم دون أن نعرض لتك النقطة ونحاول أن نصل فيها لأفضل جواب، مستندين إلى هدي النبي وسنته، وصحابته وتابعيه.
حتّى أن بعض الأسئلة الشائِعة: المولد النبوي يعتبر من البدع العملية صح أو خطأ؟ “نعتقد أن مثل تلك الأسئلة هي مدرسيَّة أكثر من كونها عامَّةً؛ خاصة بهذه الصيغة”.
الاحتفال المرتبط بطقوس أو عادات معينة وتحري يوم محدد
الاحتفال المشروع هو حب النبي وآل بيته، والإكثار من الصلاة عليه، والدعوة إلى دينه، والتخلق بخلقه، واتخاذه -صلى الله عليه وسلم مثلا أعلى وقدوة في سائر أمور حياتنا، والاحتفال الذي يعني إعلاء سنته والحرص عليها وعدم التفريط فيها، وذكر الله، وعمل الطاعات واتباعه في كل ما أمر به والانتهاء عن كل ما نهى عنه، والذب عنه والدفاع عنه ضد كل معتد متغطرس من أعداء الإسلام أو حتى بعض من قست قلوبهم وعميت بصائرهم من المسلمين أنفسهم، لا غضاضة فيه، حتى الخروج وتناول الحلوى والاستمتاع بمتع الحياة المختلفة أيضًا لم يحرمه شرعنا ولم يرفضه، فهو من المباحات.
بعض مظاهر الاحتفال بذكرى المولد النبوي
أما تحري يوم الثاني عشر من ربيع الأول، من كل عام وتخصيصه بطقوس معينة، أو ارتباط الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بأطعمة معينة أو لهو أو لعب أو غيره، وقيل حتى تخصيص هذا اليوم بالصيام دون غيره من البدع المستحدثة التي لم يدع النبي -صلى الله عليه وسلم إليها ولم يأمر بها.
فمعظم علماء السنة يرون أن الاحتفال بالمولد النبوي غير جائز شرعًا، ومنطقهم في ذلك أنه من باب المغالاة واتيان أمر في الدين ليس منه، فالنبي طوال عمره لم يحتفل بيوم مولده بمظهر معين ولا طقس ثابت من صوم أو صلاة أو نحوه، ونحن جميعا متفقون أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يترك أمرًا فيه خير إلا فعله أو أمر به أو دعا إليه، ولو كان يعلم أن في الاحتفال خير لما تركه؛ ويسألون: ما الهدف من الاحتفال بالمولد النبوي الشريف؟
فمن هذا المنطلق يرون أن الاحتفال غير جائز وأنه بدعة، فكل ما روي عن النبي في هذا الصدد أنه كان يصوم الاثنين من كل أسبوع وحين سئل عن ذلك قال (صلى الله عليه وسلم): (انه يوم ولدت فيه وأوحي إليه فيه)، ولم يكن الصوم مقيدا بيوم الثاني عشر من ربيع الأول.
النقطة الثانية أن الصحابة الكرام-رضي اله عنهم وأرضاهم- لم يفعلوا ذلك، وأن التابعين لهم لم يفعلوه أيضًا، فهو أمر مستحدث عرف بعد فترة طويلة من وفاة النبي وخلافة أصحابه وعهود التابعين، ونحن متفقين أيضًا على أن إيمان الصحابة أقوى من إيماننا، وحبهم لنبيهم أشد وأصدق من حبنا، وأنهم كانوا يتنافسون على كل ما يرضيه ويدنيهم منه منزلة، ولو كان في أمر الاحتفال بالمولد النبوي خيراً لما تركوه أبدًا.
أما الفئة التي ترى جواز الاحتفال فيتساءلون أيضًا: لماذا لا نحتفل بالمولد النبوي؟ ويقولون أنه من فعل الخير ما لم ينطو على معصية، وأنه من باب حب النبي (صلى الله عليه وسلم) والتأدب معه، وانه لا يحمل أي اتهام للسنة النبوية بالنقص ولا يعني القدح في حب الصحابة لنبينا في شيء.
والقول الفصل في تلك القضية أننا نستطيع أن نحتفل بنبينا طوال العام، بالصلاة عليه والعمل بهديه وتبليغ دعوته والصوم والصلاة وكل الطاعات، دون أن نخصص هذا الأمر بيوم معين، ودون أن ندخل أنفسنا في دائرة الشك فيما إذا كان احتفالنا حرامًا أم حلالا، أو إذا كان سنة حسنة أم بدعة وضلالة، فلنحب النبي (صلى الله عليه وسلم) بالطريقة التي علمنا إياها ولا خلاف عليها. والله جل وعلا أعلى وأعلم.
الدروس المستفادة من المولد النبوي الشريف
إن مولد النبي (صلى الله عليه وسلم) وكل ما انطوى عليه من الإرهاصات والمفارقات والمواقف، وطفولته الكريمة ونشأته الشريفة المطهرة مليئة بالعبر والدروس والمواعظ، لمن أراد أن يتذكر أو يعتبر.
ولو أردنا أن نتحدث فيها لما كفت الكلمات ولا أسعفتنا المداد، ولكنا سنحاول أن نقطف بعض تلك الثمار الطيبة لنتعلم ونرتقي بأنفسنا وخلقنا وديننا.
الثقة في تدبير الله عز وجل
إن من أهم الدروس التي يمكن أن نخلص بها من قصة مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- هي درس قوي في معنى الثقة بالله وبتدبيره للأمر في الأرض والسماوات، فدعونا ننظر ونتأمل كيف دبر الله أمر ميلاد الرسول ﷺ وقدومه إلى الدنيا بسلام، رغم كل ما مر بالعرب من محن ومعارك وأزمات، وكيف حفظ أصول النبي منذ خلق آدم عليه السلام، ووقاهم الدنس والعار ولم تمسسهم الرزيلة ولا تقربهم الفاحشة من قريب ولا بعيد، بل انظر كيف نجى الله عبد الله بن عبد المطلب وهو المنذور للذبح، وكيف أتم زواجه بخير نساء الدنيا، ليخرج من صلبه أفضل خلق الله.
وانظر كيف كان يتم النبي (صلى الله عليه وسلم) وانتقاله من رعاية أمه إلى جده إلى عمه، وما انطوى عليه ذلك من آلام الفراق التي عايشها الحبيب -المصطفى -صلى الله عليه وسلم وهو لا يزال في مقتبل العمر، وكيف قيد الله له من خلقه من يعوضه ويعتني به ويرعاه، لم ينشأ النبي مرفهًا مدللا لأن هذه النشأ لا تصنع الرجال، بل مر بمحطات قاسية ليمتحن ويتعلم الصبر ويواجه ابتلاءات الحياة، وفي نفس الوقت لم يتركه الله عز وجل وحده بلا راع ولا مرب، وكان الله قادرًا على تربيته وحمايته، حتى يشب عوده وتكتمل رجولته، ليعلم الناس أن التربية حق لكل مولود والرعاية والتوجيه من أسباب التنشئة السوية القويمة، والترك للطفل لا يأت بخير قط.
حُسن الخلق
كذلك من الدروس أيضًا التخلق بخلق النبي الحسن الطيب المبارك، فقد كان النبي كريم الأخلاق جميل الشمائل والطباع، فلم تشك أمه من سوء تربيته، ولم يقس عليه جده ولم ينهره عمه من بعد ذلك، فقد استطاع برحمة الله وبفضل خلقه الطيب أن يكسب القلوب ويأسر العقول، وينال السمعة الطيبة، ويعرف بالأمانة وتلتصق به صفة الصدق، فقد كان ملقبًا بالصادق الأمين، لقبته قريش بذلك.
وكأن الله عز وجل أراد أن يجري على ألسنة قومه جميعًا اعترافا بصدقه وأمانته استعدادًا لأمر الدعوة إلى الله، ولتكون شهادة أهل قريش للنبي حجة عليهم لا لهم.
تجديد الإيمان والشكر لله على نعمة الإسلام
إن من أهم العبر التي يجب أن نفهمها ونحسن تعاطيها حين نقترب من ذكرى المولد النبوي الشريف، أن نتوقف ونتأمل مليا كيف كان حال العرب والعالم كله قبل بعثته، بل قبل ميلاد الرسول عليه الصلاة والسلام، وكيف سار بعد مقدمه الشريف، وأن نذكر أنفسنا بنعمة الإسلام، وعظمتها وأن الله حين اصطفانا بالإسلام فقد أكرمنا أيما إكرام وأحسن إلينا وأراد بنا خيرًا، ولو أراد لجعلنا من الجاهلين الضالين المغيبين الذين لم تشرح صدورهم للإسلام.
فنعمة الإسلام تعني أن لك رب غفور رحيم، يعفو عن ذنبك ويتجاوز عن زلتك، ويقبل توبتك، وينصرك على شيطانك ونفسك، نعمة الإسلام والانتماء إلى دين محمد -صلى الله عليه وسلم -تعني أنك لن تيأس من رحمة الله أبدا، مهما كانت ذنوبك ومعصيتك، وأنك ترجو شفاعة النبي يوم لا ينفع مال ولا بنون.
ونعمة الإسلام تعني أن تجد أمامك كل مثقال ذرة من خير فعلتها ذات يوم وقد تكون فيها منجاتك، افهموا وعوا معنى نعمة ا لإسلام، لتعرفوا كيف تشكرون الله وتشكرون فضل نبي الله على نعمة الهداية.
فضائل النبي على هذه الأمة
إن فضائل النبي (صلى الله عليه وسلم) على أمته لا يحدها حد ولا يحصيها عد، فهو الناصح الأمين والمعلم الكريم، الذي لم يترك لنا من أمور ديننا ولا دنيانا شيئا مما يصلح حالنا إلا دلنا إليه وحملنا عليه، وحثنا إليه.
فقد أتم الله لنا ديننا قبل رحيله -صلى الله عليه وسلم، فبلغ وأوصانا وأوصى بنا بعضنا، وبين لنا طريق النجاة وسبل السلامة والعافية، فقال تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، كتاب الله وسنتي، فأوصانا باتباع سنته واتباع سنة خلفائه الراشدين من بعده، وأن نعض عليها بالنواجذ.
صور عن المولد النبوي
خاتمة عن المولد النبوي الشريف
كان النبي -صلى الله عليه وسلم رفيقًا، رحيم القلب، لين الجانب مع كل من يتعامل معه، فلم ينهر خادمًا ولم يقس على زوجة ولا طفلا، فقال عنه القرآن الكريم (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين).
ولم تقتصر رحمته بأهل بيته وأحبته وصحابته، بل امتدت واتسعت لتشمل أعدائه من الكفار، ممن آذوه وظلموه وأخرجوه، فيوم أن مكنه الله من أعدائه وفتح مكة وجاء منتصرًا، لم يثأر لنفسه مما كان وإنما عفا وغفر وتجاوز عن كل أذى، وتركهم.
أما رحمته بأمته من المسلمين فقد فاقت كل الحدود وتجاوزت كل الدرجات، فهو يرفق بهم ولا يشق عليهم، ويدعو لهم ويوم القيامة حيث الموقف الأصعب والشدة لتي ما بعدها شدة، كل الخلائق يقول نفسي نفسي، حتى الأنبياء والمرسلين كل منهم يريد أن ينجو من ويلات يوم القيامة، إلا هو عليه الصلاة والسلام يقول يا رب أمتي يا رب أمتي.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاءه جبريل ذات مرة وهو يبكي فقال إن الله يسألك: ما يبكيك؟ فقال من لأمتي من بعدي يا جبريل؟ فقال جبريل عليه السلام: إن الله يقول لك لن نسوؤك في أمتك أبدًا، ألا يرضيك أن يتكون أمتك ثلث أهل الجنة؟ فقام النبي في الناس خطيبا وقال، ألا يرضيكم أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبر الصحابة، فقال: ألا يرضيكم أن تكونوا شطر أهل الجنة؟ فكبر الصحابة، فقال ألا يرضيكم أن تكونوا ثلثا أهل الجنة؟. قال أهل الجنة مائة وعشرون صفًا أمتى ثمانون صفًا.
وقال الله عز وجل مطمئنا رسوله الكريم: ولسوف يعطيك ربك فترضى فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: لا أرضى وواحد من أمتي في النار، ولا زال الله يرضيه حتى يعده أن يحرج من النار كل من قال لا إله إلا الله.
فيا رب جاز عنا جبينا ومصطفانا ونبينا خير ما جزيت نبيا عن أمته، وصلى وسلم وبارك عليه عدد ما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون، واحشرنا في زمرته وأدخلنا معه مدخل صدق وارزقنا قربه في الجنة يا أكرم الأكرمين.