هذا المقال يتعلَّق بأصلٍ عظيم من الأصول في تربية الأبناء والبنات، بل هو أعظم الأصول على الإطلاق. وللتذكير به فائدةٌ نعقب بذكرها -إن شاء الله-. هذا الأصل هو أن الهادي هو الله، وأن المُهتدي من هداه الله. فمهما بذل الأبوان من جهدٍ ومن طِيب قولٍ لهداية الأبناء إنّما هذا من باب الأخذ بالأسباب وإسقاط التّبعات التي علينا وأداء إلى أهلها.
المهتدي من هداه الله
قال ﷻ في سورة السجدة ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾. وقال ﷻ في سورة يونس ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾. وقال الله ﷻ في سورة المدثر ﴿يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء﴾. وقال ﷻ في سورة الأنعام وهو أصدق القائلين ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾.
فالمهتدي من هداه الله. ومن ثَم فقد قال نوح -عليه السلام- لقومه ﴿وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
يا بني اركب معنا
إن المهتدي من هداه الله. ولقد كان نوح ﷺ، يعِظ ولده ويُذكره. ويقول ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ﴾. وينصح ويُذَكِّر، والولد يقول ﴿سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء﴾. فقال نوح -عليه السلام- ﴿لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِين﴾.
فلم يقصر نوح -عليه السلام- في الوعظ، ولم يُقصر في التذكير، ولم يتخلَّف عن بليغ عبارةٍ، وعن شِدة حرصٍ، وعن طيب مقالة. ولكن المهتدي من هداه الله. فلم يستطع نوح -عليه السلام- هداية ولده هداية التوفيق.
يا أبت لا تعبد الشيطان
وكذا لم يستطع إبراهيم -عليه السلام- هداية والده. فلم يزل الخليل يقول يا أَبَتِ..يا أَبَتِ.
﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا | يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا | يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾.
ويدعو وينادي ويناشد، ولكن أبوه يقول ﴿أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾. فلم يستطع الخليل -عليه السلام- هداية والده، إذ الهادي هو الله.
ولقد قال ﷻ في شأن نبيَّيه الكريمين إبراهيم وإسحاق -عليهما السلام- ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾.
وهما يستغيثان الله
وذكر الله في كتابه الكريم، أمْر ولدٍ ينكر البعث ويجحد التوحيد. قال ﷻ في كتابه الكريم ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا﴾ أي تقذُّرًا لكما ولما تدعونني إليه ﴿أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾. فما قَصَّر الأبوان الكريمان، بل قالا ﴿وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾. فيقول هذا الغَويُّ ﴿مَا هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾.. خرافات وأقوال الأولين.
فلم تُجد نصيحة الوالدين الكريمين لابنهما، مع حرصِهما من القلب على هدايته، ومع استعمال أفضل الأساليب وأحسن الأساليب لهدايته. ولكن لم يجدي ذلك كله مع هذا الذي قد أغواه الله، فقابل ذلك بقوله ﴿مَا هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾.
أي عم، قل: لا إله إلا الله
وإذا انتقلنا إلى رسولنا محمد ﷺ، وقد ذهب لزيارة عمه أبي طالب في مرض موته. وجد عنده الأشرار من أهل مكة، أبا جهل وعتبة ابن ربيعة والوليد بن عتبة وعقبة بن أبي معيط وغيرهم..
فقال له النبي ﷺ «أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله». والآخرون يغوونه ويقولون: يا أبا طالب، أترغب عن مِلة عبد المطلب.
والنبي يناشده أن يتكلم بكلمة واحدة، لا إله إلا الله، كي يحاج له بها عند الله، فكان آخر ما قال هو على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول لا إله إلا الله. ليس ذلك عن تقصيرٍ في دعوة رسول الله ﷺ له، ولا عن ضعف في الأسلوب والعبارة، ولا عن شدةٍ أو فظاظةٍ أو غِلظة. بل بكل نفسٍ طيبة، وبكُل أسلوب بليغ، وبكل شفقة وحرصٍ. «أي عم، قل: لا إله إلا الله». فيأبى، ويموت على الكُفْر. وينزل ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾. فليكن هذا منا على بال.