في حجر الدعوة الإسلامية نشأ المجتمع الإسلامي في مكة، وعلى أساس من مبادئ الإسلام قام هذا المجتمع وتركزت دعائمه، فقد قام ونشأ على أساس من رسالة الحق والخير التي بُعث بها سيدنا محمد رسول الله -عليه أفضل الصلاة والسلام-.
تلك الرسالة التي فرقت بين الحق والباطل، والتي دعت الناس إلى أن يعبدوا الله وحده، مخلصين له الدين، وإلى أن يهجروا عبادة الأصنام والأوثان، حتى يُحرروا أنفسهم من الخضوع لغير الله الواحد القهار، وحتى يرتفعوا بأنفسهم وبكرامتهم الإنسانية عن أن يعبدوا ما لا ينفع ولا يضر، ولا يملك من أمر نفسه ولا من أمرهم شيئا.
الوضع في مكة في بداية الدعوة
ولقد تميّز هذا المجتمع الخاص في مكة تميزا علنيا واضحا عند الجهر بالدعوة، بعد أن مضى عليها ثلاث سنوات وهي دعوة سرية. فقد كان المسلمون السابقون الذين شرح الله صدرهم للإسلام في هذه الفترة الأولى لا يستطيعون الظهور بدينهم، ولا الإعلان عن شخصيتهم الإسلامية حتى لا يتمكن أعداء الدعوة الأقوياء من عرقلة سبيلها والقضاء عليها في مهدها.
فكانوا يذهبون مستخفين إلى شعاب الجبال ليتمكنوا من أداء عبادتهم والقيام بصلاتهم. وظلوا على ذلك ثلاث سنوات، ازداد الإسلام فيها انتشارا بين أهل مكة، ونزل على الرسول فيها من الوحي ما زاد المسلمين إيمانا وتثبيتا.
وبهذا؛ حان الوقت لإعلان الدعوة الإسلامية والجهر بها، ونزل قوله ﷻ ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾.
ثم أصبح المجتمع الإسلامي له كيانه المستقل وتحددت معالمه بصورةٍ أوضح من ذي قبل في الوقت الذي أسلم فيه عم الرسول حمزة وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، حيث استطاع المسلمون أن يجتمعوا لعبادة الله جهارا، بعد أن كانوا يستخفون في اجتماعاتهم وفي عبادتهم، وحيث كان في إسلامهما قوة ومنعة للمسلمين، جعلتهم يصمدون للدفاع عن أنفسهم وعن عقيدتهم.
وهنا نوصيك بالاطلاع على: آيات وأحاديث عن الهجرة النبوية من الكتاب والسُّنَّة
المجتمع الإسلامي الأول
كان تكوّن المجتمع الإسلامي الأول تكونا فريدا في نوعه غير مألوف ولا مستساغ في عُرف الجماعات التي كانت تعيش في ذلك الوقت.
لم يكن مألوفا ولا مستساغا لا من حيث الأفراد الذين تكوَّن منهم ولا من حيث الفكرة التي اجتمع عليها هؤلاء الأفراد. إذ إنه بين نفر من سادات قريش ومن سادات مكة وعظمائها من الذين صفت نفوسهم بحيث لم يستطع سلطان المادة ولا قوانين الجاهلية أن تحول بينهم وبين المُبادرة إلى اتباع الحق وتصديق الرسول.
جمع المجتمع الإسلامي في تكوينه بين هؤلاء وبين المستضعفين الذين لا حول لهم ولا طول من الأرقّاء والموالي؛ أولئك الذين فقدوا كل مقومات الحياة العزيزة الكريمة في المجتمع المكّي الوثني من جاهٍ ومالٍ وعصبيةٍ ونسب.
اجتمع هؤلاء وأولئك في جماعة واحدة، وأصبحوا أعضاء مجتمعٍ واحِد، يتكافئ أفراده، ولا فضل لأحدهم على الآخر إلا بالتقوى والعمل الصالح. وهذا ما لم يكن معروفا ولا مألوفا قبل الإسلام.
اجتمعوا جميعا على الإيمان بالله وبرسوله، وبكتابه وباليوم الآخر، الذي يُبعث الناس فيه فيلقون جزاء ما عملوا وما قدَّمت أيديهم في هذه الحياة الدنيا؛ إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ملامح المجتمع الجاهلي قبل الإسلام
وهكذا كان المجتمع الإسلامي كذلك في الفكرة التي اجتمع عليها أفراده ، كان ثورة على الشِّرك وعبادة الأصنام والأوثان، ثورة على الظلم والطغيان، ثورة على كل الأوضاع الفاسِدة والتقاليد الموروثة التي كان يُقدّسها ويطبقها المجتمع المكي الوثني، هذا المجتمع الجاهلي، الذي كان مجتمع طبقات، ينقسم الناس فيه إلى سادةٍ وعبيد، إلى أقوياء ومستضعفين.
فالسادة الأقوياء لهم كل الحقوق ولهم التصرف المطلق في مصائِر وفي أنفس المستضعفين من الناس من العبيد والموالي. وليس عليهم من الواجبات إزاء هؤلاء المستضعفين إلا ما يتطوعون به ويقدمونه من تلقاء أنفسهم دون إلزام ولا تكليف.
كان الناس فيه يتفاضلون بالأحساب والأنساب الموروثة، وبأعراض الدنيا الزائِلة، من الجاه والسلطان والمال.
وبقيام المجتمع الإسلامي في مكة؛ تغيرت الأوضاع واختلفت القيم، وتساوى الناس؛ قويهم وضعيفهم، حرهم وعبدهم، غنيهم وفقيرهم، شريفهم ووضيعهم؛ فالناس جميعا لآدم وآدم من تراب.
أصبح الناس إذًا يتفاضلون بمقياس جديد، أصبحوا يتفاضلون بما يتقون من الإثم وما يصنعون من البر والمعروف، بما يقدمون للناس من الخير وما يتجنبون من الشر. أصبح الأمر «لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى».
كما تجد هنا: «شجاعة علي» من الدروس المستفادة من الهجرة النبوية
أهل مكة بعد ظهور الإسلام
بظهور الإسلام وقيام المجتمع الإسلامي انقسم أهل مكة إلى فريقين:
- فريق الجاهلية الأولى، الذين توغلوا في عنادهم وفي تمسكهم بضلالهم القديم من عبادة الأصنام والأوثان واستعلاء الأقوياء على الضعفاء وظلمهم لهم وارتكاب الفواحش؛ إلى غير ذلك من القبائح التي حاربها الإسلام وأخذ يقضي عليها.
- وفريق المسلمين الذين آمنوا بالله وحده، وآمنوا برسوله وبكتابه وباليوم الآخر. فتخلوا عن عبادة الأصنام والأوثان وحاربوها. وطهروا نفوسهم ونقوا ضمائرهم، واتبعوا تعاليم الإسلام؛ فصدقوا الحديث وأدوا الأمانة ووصلوا الرحم، وأحسنوا الجوار وكفوا عن المحارم والدماء، وتركوا الفواحش، واجتنبوا قول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات. فاتبعوا أوامر الإسلام واجتنبوا نواهيه عن إيمانٍ صادق وعقيدة مكينة.
وبهذا عاش الفريقان في مكة في خلاف شديد، شغل أهل مكة جميعا، واستحوذ على نفوسهم.
فالفريق الأول يدافع في عنادٍ وإصرار عن كيانه الموروث، بما فيه من شركٍ وضلالٍ وظُلم، وما فيه من استعلاء الأقوياء على الضعفاء واغتصابهم لحقوقهم.
وقد توفرت لهذا الفريق كل العوامل المادية التي تعينه على محاربة الحق وإيذاء المؤمنين. والفريق الثاني “فريق المجتمع الإسلامي” قد آمن برسالة الإسلام إيمانا ملك عليهم نفوسهم، وجعلهم يستعذبون التضحية بأنفسهم، ويستهينون بالعذاب مهما بلغ في سبيل الله ورسوله، وفي سبيل الحق ونصرته ومحاربة الباطل وهزيمته.
فالله ورسوله أحب إليهم من أنفسهم ومن أهليهم ومن أموالهم ومن الدنيا وما فيها.
وبهذه الروح السامية عمل المسلمون في سبيل نصر الدعوة، وتحملوا كل أنواع العذاب، عذاب الإيذاء في النفس وفي المال وعذاب الهجرة والاغتراب، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، فتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر حتى أذِن الله لهم بالنصر، وانتصر حقهم على باطل خصومهم ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
فعلينا أن نسلك سبيل المسلمين الأوَل، فنقوّي إيماننا بمبادئ الإسلام، ونعمل بها ونُضحي في سبيل مناصرة الحق، ومحاربة الظلم، ونتواصى بالحق، ونتواصى بالصبر؛ وإنا إن شاء الله لمنتصرون.
وختامًا؛ أوصيك بالاطلاع على: علمتني الهجرة النبوية أن رسول الله ﷺ في عناية ربه