ظهرت في الآونة الأخيرة كتابات تتحدث عن الفتاوى الفقهية وأثرها على الواقع الاجتماعي ما بين مؤيد ومعارض، وهناك من يعترض على تدخل المثقف ذي الاطلاع الموسوعي، في كون آرائه يتخللها التخبط والخلط والتشويش بزعم أنه ليس من أهل الاختصاص.
وفي المقابل نجد أن العالم الحديث يتوجه نحو التخصص في العلوم جميعها، وهذا سبيل نهضة الأمم، فمن المعروف أن الأمة التي لا تحترم التخصصات لا تحترم نفسها ولن توفق للنهوض.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل كل ما يصدر من المختص يقبل من غير إهمال؟ وهل كل ما يصدر من غير المختص يهمل من غير قبول؟
علماء التنمية البشرية يقرون أن البنية العقلية للإنسان يوجد بها عناصر الحدس والخيال التي يستطيع من خلالها الإنسان الممارسة المعرفية، ولا فرق في ذلك بين المختص وغيره، وتذكر الدراسات الأنثروبولوجية أن الوجدان كاشف للعلم ويتساوى فيه الجميع حتى مع عدم القدرة على تقديم الأدلة العلمية، فمثلا نجد أن كثيرا من الناس يؤمنون بوجود الله ﷻ ووحدانيته اعتمادا على الوجدان وليس بفعل الدليل العلمي التخصصي، ولكن آلية هذا الاعتقاد تكتشف بفعل ما يقوم به العقل الباطن بين تراكمات الإحساس والقرائن الدالة على الاعتقاد، وهذا ما نبه إليه الله سبحانه في القرآن الكريم: «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت».
وذهب ابن خلدون في مقدمته إلى ترجيح رؤية غير المختص على رؤية الفقيه المختص المتوغل في الصنعة الاستدلالية الصرفة التي إن طالت قد تزيد الوقوع في الخطأ من كثرة هذه التنطعات الدقيقة التي يتم إسقاطها على الواقع إسقاطا، فقد يستنطق المتخصصُ النص ولا يستنطق الواقع على طريقة قول الشاعر: «فلا توغلن إذا ما سبحت/ فإن السلامة في الساحل». ويشاركه محمد عبده في «الأعمال الكاملة» إذ يعتقد أن اليقين الصادق لا يتوقف على البرهان والتخصص.
ولعل هذا ما يستوحى من الحديث: «استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك»، ذاك أن الحجة المعرفية ليست رهينة المختص بل يشاركه في ذلك غير المختص، حيث يتحدث ابن القيم في «إعلام الموقعين»: «لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه وحاك في صدره قبولها وتردد فيها»، وبالطبع لا يقصد من الحديث الحكم بالتحليل والتحريم وفق الهوى والرغبات.
وما سبق يدل على أهمية رأي غير المختص، وعلى هذا لا بد من معرفة أن المختص يمارس دور التأسيس في الدليل، أما المثقف فنتيجة أنه على قدر واسع من الاطلاع والمعارف الفكرية المتنوعة مؤهل للنظر فيما يقدمه المختص من أدلة، فالفارق بينهما هو أشبه بين الفاعل والمنفعل. أتصور أنه علينا إيجاد حل لهذه المشاكل التي نعيشها من خلال وضع برنامج تعاون بين المثقفين والمختصين بعد قناعتنا بأن المثقف همه الديني هو التنوير لكنه ميال بطبعه إلى الحس النقدي الذي لا يفارقه، بل هو يراهن بكينونته كلها على هذا الحس، وهو ليس مستعدا للقبول بالصيغ السهلة أو الأفكار الجاهزة، وهذا ما يثير حفيظة الذين يميلون غالبا إلى أساليب التهدئة.
بقلم: علي الشريمي