ظل اللص الصامت لغزا يحير رجال المباحث في حياته وبعد مماته.
ولم يكن رأفت نايل سلمان عبد المعطي لصا عاديا، فقد استطاع في عملية سرقة مدبرة بمهارة أن يستولي هو وشريك له علي مبلغ ثلاثة ملايين جنيه من إحدي شركات الصرافة وكانت عملية بسيطة ونظيفة، كما يقول رجال الشرطة… وقد اختفت الملايين الثلاثة والشريك ووقع رأفت بسبب خاتم من الفضة اعتاد أن يضعه في أصبع يده اليسري، وقد شاهد أحد حراس الشركة هذا الخاتم الذي يعرفه.. فقد كان رأفت يعمل في نفس الشركة قبل أن يستقيل منها، ويدبر خطة السرقة ولولا الخاتم الفضي لما قبض عليه.
لقد قبض علي رأفت ولكن الملايين الثلاثة اختفت وكذلك الشريك، ومنذ القبض عليه… وأمام تحقيقات الشرطة.. وأمام تحقيقات النيابة وأمام المحكمة ظل صامتا لم ينطق بحرف!!
ولم يكن رأفت أخرس ولكنه صمد أمام جميع وسائل الضغط التي مورست عليه… وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما بتهمة السطو المسلح.. وفي السجن كما في التحقيقات ظل صامتا… لم يزره أحد وقضي ثلاثة أرباع المدة ثم خرج فلم يكن في انتظاره أحد.. وبعد خمس ساعات من إطلاق سراحه وجد مقتولا بخمس رصاصات توزعت بين رأسه وصدره… ورغم أنه قتل في حي ميت عقبه الشعبي المزدحم فإن أحدا لم يسمع طلقات الرصاص… وهذا يعني أن أداة القتل كانت مسدسا مكتوم الصوت… مما يعني كما قال المفتش لمساعده حسام أن القاتل ليس مجرما عاديا…. فهذا النوع من المسدسات غالي الثمن ونادر في مصر!
كان آخر من شاهد رأفت سلمان عبد المعطي وتذكره عاملا في مقهي يقع علي شارع المشروع.. وقال العامل في شهادته إن رأفت وصل الي المقهي حوالي الساعة السابعة مساء ومعه لفة بها بعض الساندوتشات وطلب كوبا من الشاي وشيشة.. وبعد أن تناول وجبته وشرب الشاي جلس هادئا يدخن الشيشة حتي حوالي الساعة التاسعة.. ثم دق جرس تليفون المقهي فلما رد العامل طلب السائل أن يتحدث الي رأفت سلمان وكان من الواضح انه في انتظار المكالمة فقد قام علي الفور واستمع الي المتحدث ولم يقل شيئا ثم سأل عن الساعة وجلس قليلا ثم دفع الحساب وانصرف.
قال المفتش سامي وهو ينحي الأوراق جانبا: هناك عناصر ايجابية في الموقف رغم الغموض الذي يلف القضية.. عندنا المبلغ الذي اختفي….. عندنا الشريك الذي لايعرفه احد… عندنا المكالمة المجهولة التي تمت في المقهى…. عندنا المسدس الكاتم للصوت.
صمت المفتش قليلا، ثم قال: وزعتم صورته علي حي ميت عقبة كله!
المقدم حسام: تقريبا.. وانتشر المخبرون في كل مكان… فلم يتعرف عليه أحد الا عامل المقهي سيد رغم الايجابيات التي تحدث عنها المفتش فقد كان يعرف أنه أمام تحد كبير.
ظل صامتا فترة ثم قال: ماهي الاستنتاجات التي تطرأ علي ذهنك ياحسام؟
حسام: إن القاتل علي معرفة وثيقة بالقتيل… فقد عرف موعد خروجه.. ورسم له خطة الاتصال به…. فطلب منه الجلوس علي المقهي لحين طلبه تليفونيا!
المفتش هذا يعني أيضا أن القاتل يعرف المقهي ويعرف رقم تليفونها!!
حسام: طبعا!
المفتش: وربما لايكون القاتل نفسه يعرف المقهي… ربما أحد أعوانه!
حسام: ولماذا لا يكون هو؟
المفتش: أن المسدس الكاتم للصوت يدل علي طبقة القاتل… إنه لايمكن أن يكون من رواد هذا المقهي المتواضع!
حسام: والي ماذا يقودنا هذا؟
المفتش: يقودنا الي سيد عامل المقهي!
حسام: هل هو همزة الوصل بين القاتل والقتيل
المفتش: لا أظن… والا أبلغه الرسالة دون الحاجة الي المكالمة التليفونية!
حسام: إذن ما أهمية سيد؟
المفتش: لابد أن القاتل أو القتلة عرفوا رقم تليفون المقهي منه!
حسام: ربما صاحب المقهي أو أي واحد من رواد المقهي!
حسام: المنطقي أن أسأل العامل!
المفتش: إذن هناك من سأل العامل عن الرقم!
حسام: أو يعرفه بحكم تردده علي المكان!
المفتش: صحيح!
ساد الصمت بينهما.. كان كل منهما يفكر في بداية… ونظر المفتش الي مساعده وقال: هل تعرف ياحسام: كيف؟
المفتش: أن رجلا يخرج من السجن بعد أكثر من عشر سنوات ثم يقتل بعد ساعات من خروجه فهذا يعني أنه محكوم عليه بالموت من قبل أن يدخل السجن.. فهو لم يرتكب شيئا في السجن يقتل من أجله!
حسام: أي ماض تقصده سيادتك؟
المفتش: السرقة الكبري.. الملايين الثلاثة.. وأريد أن تحضر لي ملف القضية.. وتاريخ رأفت قبل أن يرتكب السرقة!
بعد ساعتين كان المفتش منكبا علي ملف القضية ويضع أمامه ورقة وقلما يكتب بعض المعلومات!! قرأ كل شيء.. حتي شهادة ميلاد رأفت.. ولد في المنيا عام 1952، ومات أبوه وهو طفل، وتزوجت أمه واسمها زبيبة مالك شعبان من رجل آخر أساء معاملة الطفل فهجر المدرسة واشتغل مع أخواله في الزراعة وكان فارع الطول شديد البأس فترك الزراعة واشتغل بالحراسة في الشركات… ثم ترك المنيا وجاء الي القاهرة والتحق بشركة الصرافة التي استقال منها قبل شهور من تدبير السرقة.
كان تاريخ رأفت يرسم قصته.. وكانت رائحة الماضي تنبعث من الجريمة.. الولد الوحيد المحروم الذي يعامله زوج أمه بقسوة، وترك الدراسة.. والزراعة… والحراسة حتي الجريمة.. وبين أوراق الملف عثر المفتش علي الورقة الوحيدة التي كانت مع القتيل.. ورقة صغيرة منزوعة من أجندة عليها عنوان المقهي وأخذ المفتش يتأمل الورقة.. ورقة من أجندة فاخرة ذات حواف مذهبة!! وفكر المفتش لحظات.. ورقة مذهبة من أجندة فاخرة ومسدس كاتم للصوت.. جريمة أرستقراطية تماما..
قال المفتش لمساعده حسام أريدك أنت أن تذهب الي المقهي وتتحدث الي سيد.. أجلس أولا فترة تراقب حركة العمل..ومن الأفضل أن تذهب في المساء في ملابس عادية.. لاحظ حركة سيد في المقهي.. أنواع الزبائن.. من يتحدث اليهم سيد كأصدقاء.. والغرباء!
حسام: وما هي المعلومات التي سنركز عليها ؟
المفتش: زبائن المقهي الدائمين.. ولا تستجوب سيد قبل أن ينصرف أكثر الزبائن.. ربما بعد أن ينصرفوا جميعا!!
في المساء كان حسام يتجه الي المقهي.. كانت الأمور عادية… ومر بمحل الفاكهة.. وبائع الطيور الفرارجي… ثم محل النجارة.. ثم المقهي علي ركن الشارع..
كان المقهي ككل مقاهي الأحياء الشعبية مزدحما بالرواد.. وصوت الرواد والطاولة والضمنة ترتفع ورغم الزحام الخارجي علي الرصيف كان المقهي من الداخل فارغا نسبيا فاختار حسام مقعدا مواجها للتليفزيون وجلس وطلب كوبا من الشاي فتظاهر بالانهماك في قراءة مجلة كان يحملها.
لم تمض دقائق حتي دق جرس التليفون واسرع سيد الي الرد عليه ثم رفع صوته قائلا: ياحاج إبراهيم الأولاد.
وظهر رجل قصير القامة ضخم الجثة واتجه الي التليفون.. واستمع لحظات ثم قال وهو يصيح بأعلي صوته: جاي بعد ساعة.. أيوه.. بعد ساعة ومش عاوز دوشة بعد كده.
ورزع الحاج ابراهيم السماعة وذهب لاستكمال دور الطاولة الذي كان منهمكا فيه.
استمر الحال علي هذا المنوال.. ولم يكن هناك ما يثير الانتباه.. ولكن فجأة استيقظت حواس المقدم حسام عندما ظهرت سيارة فاخرة وقفت علي الرصيف المقابل للمقهي ونزل منها سائق في ملابس أنيقة واتجه الي مائدة في آخر المقهي وسرعان ما أسرع اليهسيد يستمع الي طلباته وهو يبادله الضحك بخبرته أدركحسام أن الذي نزل من السيارة ليس صاحبها.. وأنه سائق عليها رغم ملابسه الشيك..
وأخرج السائق بعض النقود من جيبه وأخذ يعدها وقد بدت علي وجهه علامات الرضا
جاء الشاي والشيشة للسائق الأنيق الذي وضع نقوده في جيبه وانهمك في شرب الشاي والشيشة ثم أخرج من حزامه جهاز موبايل ووضعه بفخر واعتزاز علي المائدة.. وجاء سيد ودخل في فاصل هزار مع السائق: أيوه يا عم فوزي خلاص الدنيا اتغيرت!
فوزي: الدنيا كده!
سيد: طبعا.. ما عدش فيه اتصالات من القهوة!
فوزي: خلاص يا أبو السيد
سيد: ربنا يا سيدي يزيدك كمان وكمان! قل تدفق الزبائن علي المقهي.. وكان حسام قد شرب ثلاثة أكواب من الشاي.. وأحس بالجوع فقام خارجا وعينه علي السائق والمقهي وما يحدث فيه والتقط رقم السيارة الفاخرة.. أحضر قطعة من الجبنة ورغيفا بلديا وأخذ يتناول بشهية أول طعام منذ الأفطار.. ونظر فوزي الي ساعته ثم اتصل من المحمول بشخص ما وخرج بعد أن دفع الحساب وهو يتبادل الضحكات مع سيد أشار حسام لعامل المقهي سيد وطلب الحساب ثم سأله ببراءة: هو الأخ فوزي ده صاحب العربية الفخمة!
سيد: لاده سواق عليها!
حسام: عند مين ؟
سيد: في شركة كبيرة قوي.. شركة نقل!
حسام: اسمها ايه ؟
سيد: ترانس.. مش عارف ايه!
حسام: تعرف صاحبها ؟
أبدي سيد دهشته وقال: لا يا بيه.. ولا عمري شفته.. اعرف فوزي بس السواق بتاعه لأنه جارنا.. وكانت الشركة ساعات بتطلبه علي تليفون القهوة
ثم ابتسم وأضاف: طبعا قبل ما يجيب الموبايل!
لم يكن حسام في حاجة إلي معلومات أكثر وحتي لا يثير ريبة سيد دفع الحساب وأجزل البقشيش وخرج.
اتصل بالمفتش وروي له ما حدث.. كان يعرف أنه وضع المفتش في مكان أفضل مما كانوا في الصباح.. وقد جاءت المعلومات سريعة وبأقل مجهود.
قال المفتش: عظيم.. أنت تدرك أننا نقترب من الصيد.. أريدك في الصباح الباكر أن تجمع كل المعلومات عن السيارة مادمت قد ألتقطت رقمها.. وعن طريقها سنحصل علي المعلومات اللازمة عن شركة ترانس هذه وصاحبها.
حسام: أية معلومات أخري.
فكر المفتش لحظات ثم قال: الماضي ياحسام.. الماضي!
حسام: أي ماض يا أفندم؟
المفتش: ماضي صاحب الشركة.. القصة كلها فيها رائحة الماضي؟.
***
في الصباح الباكر كان المقدم حسام كالثعلب الذي انطلق خلف فريسته.. جند عددا كبيرا من المخبرين.. اتصل بإدارة المرور.. وحصل علي اسم صاحب السيارة.. ذهب إلي إدارة البطاقات.. وإلي مصلحة الجوازات والجنسية.. لم يترك مكانا من الممكن الحصول علي معلومة منه لم يذهب إليه.
قرب منتصف النهار دخل علي المفتش وهو يحمل ملفا ضخما حافلا بالأوراق والمعلومات ولم يكد يري المفتش حتي بادره هو بقوله: ما هو اسم صاحب السيارة.
ردد باسما: كرم محمد عبد الرحيم البدري!
ولدهشة حسام بدت خيبة الأمل علي وجه المفتش، فقال حسام: ماذا حدث.. هل ثمة خطأ ما!
هز المفتش رأسه وقال: لا بأس.. إنها طلقة طائشة.. المهم هل أتيت بالمعلومات؟
حسام: كلها!
ووضع الملف أمام المفتش الذي وجد حسام قد لخص المعلومات في نقاط.. السيارة رقم 8181 ملك كرم محمد عبد الرحيم البدري صاحب ورئيس مجلس إدارة شركة ترانس ميدل ايست للتجارة والنقل ولد في المنيا عام 1955، وبعد عدة سنوات في المدرسة ترك المنيا وهاجر إلي الاسكندرية حيث اشتغل في الميناء في أعمال مختلفة.. تباع عربة نقل.. مستخلص.. والاتجار في قطع الغيار المستعملة.. ثم أسس شركة للنقل بالسيارات مع عدد من بلدياته ولكن اختلاف الشركاء أدي إلي إفلاس الشركة فترك الإسكندرية وهاجر إلي القاهرة.. ومنذ حوالي عشر سنوات اختفي وقيل إنه سافر إلي ليبيا، ولكنه ظهر مرة أخري وأعاد تأسيس الشركة وحده واشتري أسطولا من سيارات النقل الثقيل وتوسع في تجارة قطع الغيار وأصبح من كبار تجار السوق.
كان حسام يراقب وجه المفتش وهو يتغير بين لحظة وأخري من الابتسام الي التجهم.. إلي الحركة وفجأة سأل المفتش دون أن يرفع رأسه من علي الورق: هل أحضرت شهادة ميلاد سلمان البدري؟.
حسام: أحضرت صورة ضوئية منها!
أخذ المفتش يقلب الورق بعصبية وهو يتساءل: أين هي؟
حسام: إنها في مظروف أزرق وحدها!
امتدت أصابع المفتش بين الأوراق والتقط المظروف الأزرق ورفعه أمام عينيه ثم مد أصابعه وأخرج الصورة الضوئية ورفعها أمام عينيه ولم يكد يفعل ذلك حتي وقف ودق مكتبه بيده وصاح: كما توقعت!
حسام: ماذا توقعت؟
المفتش: إنهما أخوان رأفت سلمان وكرم البدري!
حسام: الاسمان مختلفان.
المفتش كأنه يصيح: ولكن الأم واحدة زبيبة مالك شعبان.. إنهما أخوان ولكن ليس شقيقين.. أنهما أخوان من أم واحدة وهذا سر اختلاف الأسمين.. كلاهما من المنيا.. كلاهما هاجر إلي القاهرة.. وألتقيا.. ودبرا سرقة شركة الصرافة معا.. أحدهما وقع.. والآخر أخذ الملايين واختفي وأشاع أنه سافر إلي ليبيا.. ثم ظهر بعد أن تلاشت القصة وأسس شركة النقل.
وصمت المفتش لحظات ثم قال: لقد تعاهدا إذا سقط أحدهما ألا يشي بالآخر.. وقد وفي نايل بالوعد فلم يعترف ولم يتحدث وظل صامتا طوال مدة سجنه.. ولما عرف أخوه كرم أن نايل سيخرج من السجن دبر الجريمة فقد عرف أنه سيأتي للمطالبة بحقه في الملايين.. وقد يطالب بنصيبه في الشركة.. كان لابد من الخلاص منه.. وقرر أن ينفذها بنفسه.. كان يعرف عنوان المقهي ورقم تليفونها من سائقه فوزي واستطاع إيصال عنوان المقهي إلي أخيه.. فلما خرج وذهب إليها حدثه تليفونيا فيها وطلب منه مقابلته خلف مجمع المدارس في ميت عقبة حيث تهدأ الحركة ويقل السابلة ليلا.. وهناك تخلص كرم من سلمان أو تخلص من الماضي مرة واحدة.
حسام: ولكن إثبات ذلك يحتاج إلي جهد ووقت!
المفتش: هناك أمل في الانتهاء من القضية في عملية واحدة، فإذا لم ننجح سنبدأ معركة طويلة لإثبات هذه الحقائق!
حسام: وما هي العملية الواحدة؟
المفتش: أن نعثر علي المسدس في مكتب أو منزل كرم، وبمطابقة الرصاصات المستخرجة من جثة سلمان بالمسدس تنتهي القضية.
حسام: وكيف سنبدأ؟
المفتش: استصدر أمرا من النيابة بالتفتيش وغدا يقوم فريقان أحدهما إلي مكتب كرم والآخر إلي منزله للتفتيش ولعل الحظ يحالفنا.
وفي اليوم التالي تم تفتيش مكتب ومنزل كرم وعثر علي المسدس الكاتم للصوت في خزينة مكتبه.. وتبقي مطابقته للطلقات التي قتلت سلمان.. وقال المفتش معلقا: إن الماضي لا يموت.
تمت..
بقلم: محمود سالم