كثيرا ما أتساءل عن العلاقة بين التطور والتفسخ، هل بالفعل ثمة علاقة طردية بينهما بحيث إن ارتفاع أحدهما يؤدي لارتفاع الآخر أم أن المشكلة في فكرتنا عن التطور؟
لا يزال ذلك التساؤل يكبر في ذهني حين أقرأ كتابا لمثقف يتنصل بإجحاف من تاريخه أو حين يلقي بمبادئه جانبا فتتحول حروفه إلى وحل داكن، ويصاحبني هذا التساؤل أنى أذهب وحتى حين أبصر الحياء يتساقط من على أذرع فتاة في محفل أو منتزه.
أظننا نلحظ تعاظم اتساع موجة فك الارتباط بالموروث والانجذاب إلى المستورد الحديث بلا تمحيص، كما أن مؤشر اضطراب السلوك بازدياد. ولا ريب فالمسافة بين القيمة والإنسان أصبحت أطول، وفاعلية القيمة أقل، نظرا لضآلة التفاعل معها وانعدامه في أحيان أخرى.
لماذا ارتفع صوت المادة وخبا صوت الفضيلة؟ بل لعلي أذهب إلى أبعد من هذا لأقول لماذا أصبحت الفضيلة منقصة والرذيلة بكل أسف مفخرة؟
ربما تكمن المشكلة في تصور الآخرين للفضيلة، فهي في نظرهم ليست إلا جزءا من أفكار الإنسان القديم وعوامل استلابه وتراجعه، أو أنها عثرة في طريق تطوره وتحديثه، فهي في نظر الكثير أداة تعلي من العواطف وتعطل العقلانية والموضوعية، وهي رقيب يفرض سلطته على الممارسة والتفكير وحتى الخيال.
وقد غفل أصحاب هذا التصور عن أن الفضيلة هي القاعدة الصلبة التي تحفظ البناء من الانهيار، وأن غيابها أو تغييبها يعني الانتظار على جرف هار، فحين تنعدم أو تتقلص ستتفشى أنماط سيئة من السلوك تقوم على إباحة الفرد لنفسه ما يشاء، فلا رادع يمنعه عن الغش والاحتيال وممارسة الرذائل بكافة أشكالها، ولا ريب أن ذاك سينسحب على المجتمع ليصبح سمته التي لا تنفك عنه، وبمقابل ارتفاع البنيان وتضخم الأموال وبروز أنماط من الرفاه والتمدن ثمة فراغ أخلاقي وقيمي كبير يفتك بكافة تفاصيل التعاظم المادي، فزوال القيم المعنوية الإيمانية يعني انعدام قواعد وركائز المجتمع المتحضر.
الفضيلة التي تقلصت للأسف، هي الحافز والحافظ للمجتمعات، فهي القيمة والفكرة التي ينطلق منها الفرد للبناء، وهي التي تعمل على توجيه سلوكه وفق قاعدة صلبة في هامش متسع تتعدد فيه الوسائل وتتنوع الأشكال وهذا بالتأكيد لا يعني تحرر الوسائل من القاعدة.
يجب أن نعي وبقوة انعدام التعارض بين كفة الثقافة والعلم والتطور وكفة عقيدتنا ومبادئنا، بل إن الكفة الثانية هي الخلفية الصلبة التي نتكئ عليها ونقوى بها ونبدع، أما التنكر لها أو معاداتها فهو الترنح بين ثقافة نجحدها وأخرى ترفضنا، وحين ذاك يكون السقوط.
بقلم: ملاك الخالدي