تقريبًا، ومع كُلِّ شتاء تُثار الإشكالية من جديد: ما هو الفرق بين المطر والغيث ولأيّهما يكون الدُّعاء؟. وهُنا سنُطيكُم غيوث القول في الأمر والمسألة.
الغيث في القرآن الكريم
من الأمثلة التي نتلمَّسُ فيها الاعجاز القراني للبشر اثباتًا وتأكيدا لأن مصدر القران الكريم هو الله -جلّ وعلا- نقرأ قول الله تبارك وتعالى عن نفسه عز وجل “وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ“.
الشّرح والتفسير
- وَهُوَ: أي الله سبحانه وتعالى.
- الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ: أي الذي ينزل الماء من السماء.
- مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا: أي من بعدي ما طال اشتياق الناس لهذا المطر، حتى وصلوا إلى درجةٍ تتماس مع اليأس وتتصل بالقنوط -والعياذ بالله-.
- وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ: عبَّر عن الماء النازل من السماء بكلمه “الغيث”.
المطر في القرآن الكريم
وفي سياقٍ آخر، سياق العقوبة والردع، يقول ربنا جلّ شأنُه عنه “وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا ۖ فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ”.
ومن سورة الأعراف “وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ”
ومن سورة الأنفال “فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ”.
ومن سورة هود “وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ”
ومن سورة الحجر “وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ”
الفرق بين المطر والغيث
سمَّ ما نزل من السماء من ماء مطر، وهُناك سمّاهُ غيثًا.
فالغيث الماء النازل من السماء والمطر الماء النازل من السماء أيضًا.
كل القراءات تقرأ هناك “وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ” وكل القراءات تقرأ هنالك “وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا”. ويأتي السؤال: ما الفرق بين المطر والغيث؟
والجواب: أنّهُ يُعبر بهذه اللّفظة “الغيث” عن الماء النافع، المنقِذ من الجفاف والقحولة واليبوسة والعطش والحرمان.
ومن كلمه “غيث” أُخِذ الفعل أغاثهُ – يُغيثهُ، وأُخِذ الفِعل يستغيث.
فمثلاً “أغاثهُ” كطفل يصرخ من رؤية ثعبان “مثل” فجرى عليه أباهُ واحتضنه ونجّاه بإذن الله من هذا الخطر. هذه مأخوذة من الغيث.
كما أن الغيث يقضي على اليأس والضياع والهلاك. فقد صوّر الله العمل على نجاة الطفل من الثعبان بأنه كالغيث، كالماء الذي إذا شربهُ شديد العطش استرد ترطّبه وحياته.
إذًا، فكلمة الغيث لا تُقال في أي نزل من السماء، وإنما تُقال في المطر الذي لا يهدم البيوت والذي لا يخرِّب الحياة، والذي لا تتوقف معه عجلةُ الحياة. إنما هو المطر النّافِع ع الذي يفيد ولا يُبِيد.
بينما تٌقال الأمطار في الماء النازل من السماء المدمر كالسَّيل الذي يطيع ويدمر البيوت وما شاكل ذلك.
ويقول لسان الدين بن الخطيب
جادَكَ الغيْثُ إذا الغيْثُ هَمى
يا زَمانَ الوصْلِ بالأندَلُسِ
لمْ يكُنْ وصْلُكَ إلاّ حُلُما
في الكَرَى أو خِلسَةَ المُخْتَلِسِ
إذْ يقودُ الدّهْرُ أشْتاتَ المُنَى
تنْقُلُ الخَطْوَ علَى ما يُرْسَمُ
زُفَراً بيْنَ فُرادَى وثُنَى
مثْلَما يدْعو الوفودَ الموْسِمُ
والحَيا قدْ جلّلَ الرّوضَ سَنا
فثُغورُ الزّهْرِ فيهِ تبْسِمُ
يقول الدكتور عبد الحكم سلامة، حول الفرق بين المطر والغيث. هذا هو القرآن الكريم، هذا التعبير القرآني بدقته. فإذا استقرأنا -يعني تتبعنا- كل مادة غيث وإغاثة ويُغيث في القرآن الكريم لوجدنا السياق في قمة الإعجاز، وإذا تتبعنا السياقات القرآنية التي تستعمل مطر لوجدنا أنها سياقات فيها الدمار وفيها الخراب وفيه الهلاك والعقوبات وما شاكل ذلك.
هذه هي دقة القرآن، وهذا هو إعجاز القرآن، الإعجاز اللُّغوي الذي هو المقصود الأعظم في القرآن القران الكريم.
من أجل هذه النقاط واللمحات الإعجازيّة وقف العرب أمام القران واجمين، وقف علامات البلاغة أمام القرآن الكريم واجمين.
فالعرب أُمّةُ كلِمة وعبارة وإبداع ادبي في غايه الرُّقي. وهُم أعظم أُمّةٍ تمتلك أعظم تراث أدبي على مستوى البشرية قديمًا وحديثًا وإلى يوم القيامة. ومع ذلك هؤلاء العرب بهذه الفحولة في الأدب، وبهذه العبقرية في الإبداع الأدبي لم يستطيعوا إلا أن يخضعوا للقرآن خضوعًا كاملا.