خلق الله الإنسان مذ خلقه وجعل منه آية كبرى ومعجزة كاملة حقيقية، بكل ما تعنيه كلمة الإعجاز من معنى، ولا تتوقف المعجزة عند الخلق بل تمتد ويمتد شغف الإنسان بمعرفة الحقيفة وإدراكها، ويستمر إطلاعه عز وجل لخلقة على الآيات في أنفسهم وفي كل ما حولهم فيقول: ” سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ” ومهما بلغ من العلم ومهما فتح الله على الإنسان من أسبابه وأدواته المساعدة يظل كل ما يعرفه مجرد قطرة من بحر العلم، ويظل فوق كل ذي علم عليم.
وليس هناك شيء أدل على جهل الإنسان وقصور عقله وقلة علمه من جهله بذاته وكنهه وتكوينه، فهو يتخبط في حيرته وتيهه وخلطه بين المكونات والمسميات ولا يزال كذلك حتى يصل إلى التجرد لله والإخلاص له عز وجل والتسليم بجهله وعجزه، وحتى يهديه الله ويكشف عنه حجب ذلك الجهل بفضله ومشيئته” أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ”.
هنا سنتناول قضية من قضايا الخلط واللبس الذي وقع فيه الإنسان على مدار رحلته الاستكشافية لنفسه ولكنهه وهي قضية الخلط بين مكونات الإنسان وتركيباته المادية والجوهرية، وأعني الخلط بين مفاهيم كل من ( الفؤاد والقلب والنفس والروح ) والتي لم يتوصل فيها إلى حل نهائي وحاسم حتى اليوم، ولكنا سنحاول بقدر الإمكان الاقتراب من الحقيقة والجواب الصحيح بإذن الله.
الفرق بين الفؤاد والقلب وعلاقتهما بالنفس
الفرق بين الفؤاد والقلب من الإشكاليات الكبيرة جدًا التي حيرت الإنسان، والتي اجتهد كثيرًا في البحث عنها ومحاولة معرفتها، على الرغم من أن التفسير الواضح والصحيح لكتاب الله عز وجل يمكنه أن يجعل القضية بسيطة وسلسة وميسرة أكثر مما يتخيل الكثير منا، وهنا سنحاول أن نجد الفرق مهتدين في ذلك بالكتاب والسنة، وسنبدأ بالفؤاد فهو الذي ذكر أولًا.
ما المقصود بالفؤاد وأين يوجد؟
مع بداية خروج الجنين من بطن أمه يكون قد خلق الله عز وجل الله السمع والبصر والفؤاد وفي ذلك يقول الله عز وجل: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
وهذا يعني أن الفؤاد يعمل بمجرد خروج الإنسان للحياة، وأنه سابق عن عمل القلب (بالمفهوم المعنوي وليس المفهوم المادي الذي يقصد به عضلة القلب فهذه تعمل قبل أن يولدالإنسان)، وبعيدًا عن الاجتهادات والآراء التي تبين خطأها فإن الفؤاد ذكر حوالي ستة عشر مرة بينما ذكر القلب أكثر من مائة وستين مرة، ومن الجدير بالذكر أن السياقات الي ذكر فيها لفظ الفؤاد تدل أو تشير إلى أن “الفؤاد” هو جزء من الإنسان حيادي لا علاقة له بالمشاعر ولا الإيمان ولا الكفر ولا الاعتقاد، ومن ثم فيمكن القول باختصار أن الفؤاد هو “المخ”، المخ الذي هو وحدة تشغيل كافة أجهزة وأعضاء الجسم وهو مرتبط بالسمع والبصر، ويمكن الاستدلال على صحة ذلك بعدة دلائل أو استنتاجات معظمها راجع إلى الآيات القرآنية التي ذكرت لفظ الفؤاد.
اقتران ذكر الفؤاد دائمًا بالسمع والبصر يدل على وجود علاقة بينهما وبين الفؤاد، وهذا الاقتران في الذكر يدل على الاقتران في الواقع أو في الوجود المادي، ولو تأملنا قليلًا لوجدنا أن أقرب عضو للسمع والبصر والعضو المؤثر فيهما هو المخ، والعلماء المتخصصون في دراسة الأعصاب يؤكدون ذلك.
المقصود بالقلب ومحله
أما القلب فهو مفهوم معنوي وحسي يقصد به العقل ومناط الإحساس، ومحله عمق الصدر، ولا يشترط أن يكون المقصود به القلب المادي العضو المسؤول عن ضخ الدم في الجسم ولكنه في موقعه ومحله.
ويمكن القول أنه كيان غيبي تشهده وتفكر به وتشعر به، فالعقل هو القلب والمقصود بالقلب “العقل”.
وردًا على من يطلقون على المخ لفظ القلب أو العقل فهذا غير صحيح وذلك بدليل قول الله عز وجل: “أم لهم قلوب يعقلون بها”، ويقول في موطن آخر “قلوب يفقهون بها”، فأسند الله للقلب فعل يعقل ويفقه.
ومن ذالك يمكن أن نقول أن الفرق بين الفؤاد “الذي هو المخ” والقلب الذي هو العقل وهو محل التفكير والتقرير أن الفؤاد يعمل بشكل آلي وتلقائي بأمر الله ودون تدخل من الإنسان، وهو نعمة تستحق الشكر، بينما القلب يقرر ويعمل بوعي من الإنسان وأمر منه، وبقليل من التأمل للآيات وللدلالات المادية والحسية لها يتبين لنا صحة استنتاج أن الفؤاد هو المخ ونتبين أن الستة عشر آية تنطبق قي معانيها ومفاهيمها على المخ، وأن القلب هو العقل.
الفرق بين الفؤاد والقلب
ينقلنا سياق الحديث إلى نقطة أخرى وهي الفرق بين الفؤاد والقلب وما يميز كل منهما عن الآخر.
الفؤاد هو المخ والقلب هو العقل
- الفؤاد محله الرأس والقلب محله الصدر: وفي ذلك يقول الله عز وجل: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46).
- وظيفة الفؤاد وظيفة مادية بحتة وهو مغلف بغلاف مادي قوي لحمايته ومكان معروف ومادي لاحتوائه وهو الجمجمة، أما القلب فوظيقته معنوية ومن ثم فمكانه سري، ومن ثم فلا يمكن الإمساك به أو إخراجه أو رؤيته، وكل ما نعرفه عنه أن محله الصدر.
- الفؤاد يعمل بشكل لا إرادي ولا يسأل عنه الإنسان فهو يدير الجسم ليستمر في البقاء، أما القلب فمهمته الإحساس واتخاذ القرارات والتفكير والاعتقاد.
- الفؤاد مقسم إلى أجزاء أما القلب فهو واحد”ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه”.
- الفؤاد يتعامل مع الموازين والحواس أما القلب فهو يتعامل مع المشاعر والاعتقاد وهو مناط التكليف.
الفرق بين النفس والروح
النفس والروح هما من عند الله فالنقس تظل مع الإنسان طوال حياته وتفارقه عند الموت الأصغر أو الموت الأكبر، أما الروح فهي تجلي من أمر الله تتنزل حين يرتفع الإيمان ويملأ القلب.
أولاً: النفس
تبين من العرض السابق لمفهوم القؤاد والقلب ودلالتهما والعلاقة بينهما أن الانسان هو عبارة عن مكونين فؤاد “مخ” يدير أجهزته وجسمه ويقوم بكافة وظائقه الحيوية للاستمرار والقلب هو “العقل” وهو الموكول له مهمة التفكير والشعور والقرار وغيره مما تستقيم به حياة الإنسان ويكلف بفضله، أما النفس فهي كيان مؤقت يوجد حين يكون الإنسان في حالة يقظة ووعي وحياة وحين يكون متمتعا بسلامة الفؤاد والقلب معًا، وبمعنى أوضح فإن النفس توجد أثناء اليقظة بينما يتوفاها الله عند النوم وهذا ما يتضح من قول الله عز وجل: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)، فالنقس مؤقتة الوجود، أو ذات وجود ظرفي مؤقت، وهي التي تكون مع الإنسان وتوسع أمامه الآفاق ويتفاعل بها مع الحياة.
ثانيًا: الروح
الروح ليست من مكونات الإنسان ولا جزء منه، فالإنسان هو فؤاد وقلب ونفس تصحبه في اليقظة وتكون عند الله في النوم، أما الروح فليست موجودة فيه ولا جزء منه، وإنما هي تجلي من أمر الله لا يعلم كنهها سواه عز وجل، وهو القائل في محكم التنزيل: “وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)).