في يوم من الأيام وقف روميو في ليلة ممطرة من ليالي فيرونا الإيطالية يسهر الليل ويتسلق الشجر ويهين نفسه ويعرضها للخطر من أجل رؤية عيني حبيبته جولييت..
لا يعرف الشوق إلا من يُكابده.. ولا الصبابةَ إلا من يعانيها
وعلي رأي خالتي: “اللي عايز حاجة.. بيعمل لها قرد”
أتعجب كثيرا من وصف الإمام الشافعي لنفسه إذ يقول:
همتي همة الملوك ونفسي نفس حرٍ تري المذلة كفرا
لماذا وصف الشافعي همته العالية بهمة الملوك. والحق أن الملك ليصير ملكا وليحافظ علي مُلكه يصل الليل بالنهار سهرا وفكرا وتخطيطا بل وخداعا.. فإذا كان تحصيل الُملك صعبا، فإن الحفاظ عليه من أصعب ما يكون..
هذه همة الملوك وتعبهم من أجل تحصيل الملك والقوة والنفوذ، فلماذا اجتهد العلماء والشعراء والفنانون والفلاسفة وفحتوا أنفسهم.. وقبل أن نجيب عن هذا السؤال لنا أن نسأل: وهل أتعب هؤلاء أنفسهم فعلا –لا مؤاخذة-؟
الإجابة: آه لا مؤاخذة
جهد وصبر
إن التأمل في سيرة كل من انشغل بالعلم أو بالفن أو بالفكر لتظهر كيف أنفق هؤلاء جهدا وصبرا عجيبين..
انظر إلي أرسطو الذي مكث يدرس عند أستاذه أفلاطون عشرين عاما في الأكاديمية لا يغادرها، ولما أراد أن يدرس علم النبات سافر إلي آسيا الصغري في وقت كان السفر فيه مشقة لا تحتمل. وقد عاش في بعض حياته مطرودا ملاحقا، وحكم عليه بالإعدام، وعاش هاربا، ومات في منفاه.
وفي تاريخنا من ذلك كثير.. فهذا الإمام النووي يحضر أحد عشر درسا في اليوم الواحد.. ويمكث في المسجد خمس سنين لا يغادر عتبته (لم ير الشارع فيها قط)، ينام قاعدا وأمامه الكتاب لدقائق حتي يستيقظ ويكمل الدرس، حتي أنه مرت عليه سنتان لم يلمس جنبه الأرض أبدا، لا يأكل إلا النواشف، حتي أصبح إمام العلماء، ومات وهو ابن خمسة وأربعين عاما، فلما قسّموا مؤلفاته علي عمره وجدوا أنه كان يكتب في اليوم ما يزيد علي أربع كراريس كاملة.
وهذا الشاب الأندلسي (بقي بن مخلد) يسافر من إسبانيا (بلده) إلي العراق (بلد الإمام أحمد بن حنبل) حتي يتعلم منه.. وقد سافر هذه المسافة من الأندلس مرورا بالمغرب وتونس ولجزائر وليبيا ومصر وفلسطين والأردن إلي العراق.. ماشيا علي قدميه.. تخيل!!
وهذا محمد بن الحسن الشيباني يعلم الناس طول النهار، ويعلم تلميذه أسد بن الفرات طول الليل فلا يكاد ينام في نهار أو ليل، وكان بجانبه قربة ماء .. عندما يتطرق النوم إلي عينيّ أسد.. كان يرمي فيهما الماء حتي يستيقظ..
وهذا الزمخشري عالم العربية يقول:
سهري لتنقيح العلوم ألذ لي
من وصلِ غانيةٍ وطيبِ عناقِ
وتمايلي طربا لحلِ عويصةٍ
أشهي وأحلي من مدامة ساقي
وصريرُ أقلامي علي أوراقها
أحلي من الدوكاه والعشاقِ
أأبيت سهران الدجي وتبيته
نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي؟
وهذه أخبارهم في الفقر والحاجة كثيرة.. فمنهم من كان يبيع ملابسه حتي لا يجد من الملابس ما يخرج به ليقابل الناس فيظل في بيته. ومنهم من غادر بلدا لأنه لم يكن يجد من المال ما يكفيه ليشتري حفنة من الفول يقيم بها أوده.. حتي قال بعض الشعراء:
قلت للفقر: أين أنت مقيمٌ قال لي: في عمائمِ الفقهاءِ
وهذا ابن سِيده يكتب كتاب (المخصص) في اللغة.. وهو كتاب في تسعة عشر مجلدا ضخما لا يكاد الإنسان يقرأه في عمره فكيف بمن كتبه كتابةً؟ فماذا لو عرفت أن ابن سيده كان أعمي وإنما أملاه إملاءا من عقله دون رجوعٍ إلي كتاب!!
وكيف لو عرفت أن أحد أوسع كتب الفقه، وهو كتاب (المبسوط) للإمام السرخسي في الفقه الحنفي وقد طبع في واحد وثلاثين مجلدا، فهل تعرف كيف كتب السرخسي هذا الكتاب؟ لقد كتبه وهو محبوس في سجنٍ تحت الأرض بسبب كلمة حق قالها عند سلطان جائر، فأملي كتابه هذا املاءا وهو يصرخ حتي يسمعه الطلبة الذين كانوا يأتونه فيق السجن فيسمعون منه الكتاب وينقلوه.. ولم يرجع السرخسي إلي مرجع واحد في كتابه هذا!!
وهذا الإمام الغزالي يعتزل الناس أحد عشر سنةً حتي يزكّي نفسه ويبعدها عن شهواتها.. انظر هل تستطيع أن تعيش يوما واحدا في غرفتك لا تخالط أحدا ولا تكلم أحدا ولا تتابع أخبار الفيسبوك، تعرف حينها صعوبة العيش في خلوة أحد عشر عاما..
قيم مفقودة
بل إن المبدعين والفنانين، قد أتعبوا أنفسهم أيما اتعاب. فهذا بيتهوفن الذي ملأت معزوفاته سمع الدنيا وبصرها، أصمٌ فقد حاسة السمع ومع ذلك أمتع الناس بهذه الموسيقي دون أن يسمعها.. وكان يقول: ((يا لشدة ألمي عندما يسمع أحد بجانبي صوت ناي لا أستطيع أنا سماعه، أو يسمع آخر غناء أحد الرعاة بينما أنا لا أسمع شيئاً، كل هذا كاد يدفعني إلى اليأس، وكدت أضع حداً لحياتي اليائسة، إلا أن الفن وحده هو الذي منعني من ذلك))
فإلي أي شيءٍ قصد هؤلاء الفلاسفة والعلماء والفنانين.. وما هي القيم التي بحثوا عنها، وأتعبوا أنفسهم لأجلها، مسلمين كانوا أو غير مسلمين..
قال المحققون أن تعب العلماء، وتفكير الفلاسفة، وابداع الفنانين، وكتابة الكتاب، وتحصيل الطلاب، كلها كانت لتحقيق غايات ثلاث .. كلهم أتعب نفسه في مجاله لتحقيقه. هذه القيم هي غاية العقول، ونهاية المعارف ألا وهي: الحق والخير والجمال..
فالحق هو (الحكم المطابق للواقع)، وما يوصل إليه هو (العلم). فالعلم غايته الوصول إلي الحقيقة، وطريقته المحاججة والمباحثة، وأداته التفكير.
والجمال هو ( كمال الشيء علي وجه يليق به فتأنس إليه النفس) وما يوصل إليه هو (الفن). فالفن غايته ادراك الجمال، وطريقته الشعور والتعبير، وأداته التذوق
والخير هو انضباط السلوك الإنساني علي نحو قويم وما يوصل إليه هو الأخلاق. فالخلق غايته ادراك الكمال الإنساني، وطريقته التربية والتهذيب، وأداته الرياضات النفسية وصحبة المربّين
فهل يحتاج مجتمعنا الآن إلي الحق، والخير، والجمال؟ وما دور القيم الثلاث في النهضة التي نرجوها؟
إننا نحتاج إلي الحق لنحدد واقعنا، ونضيء مستقبلنا.. فإننا أمام مذاهب شتي، وأفكار عديدة، وقرارات كبيرة لابد أن نتخذها.. بينما يضرب الجهل في أركان بلادنا. ثم إن الإنسان في عصرنا تحاصره الماكينة الإعلامية التي تحول الحق باطلا، والباطل حقا، والمطلق نسبيا، والنسبي مطلقا، بينما يتيه الإنسان في طلبه للحق .. ولا يدري أين هو.. فيقال له: لا تحزن، ولا تطلب شيئا، فليس الحق أمرا موجودا من الأساس.. بل هو أمر نسبي فكل منا يري الأمر من زاويته.. وليس للأشياء حقائق ثابتة. فيسكن الإنسان إلي ذلك الجواب.. ويعيش في عماء.. فهل وصل الإنسان إلي الحقائق .. علي طول بحثه في العلوم؟
ونحتاج كذلك إلي الخير، في زمان أصبحت المادة – والمادة فقط – هي معيار التفاضل بين الإنسان والإنسان، والمحرك الوحيد للسلوك البشري.. فهل أصبح الإنسان سعيدا بعد ذلك؟
ونحتاج إلي الجمال وقد صار القبح حولنا هو الأصل، ففقدنا ذلك التناسب والتناغم والكمال في عالم الأشياء، وعالم الأشخاص، وعالم الأفكار.. فاضطرب وجدان الإنسان، وصار إلي العنف والتطرف المذموم، والتعدي.. فهل أدرك الإنسان الجمال في نفسه وفي الكون مع هذا التطور في الوسائل والآليات؟
والبناء المعرفي الذي يزرعه الإسلام قائم علي ترشيد الإنسانية وتحقيقها بهذه القيم الثلاث.. الحق، والخير، والجمال. وسيأتي بيان ذلك في المقالات الآتية.. يكفي أن نشير هنا إلي أن العلوم الإسلامية الأساسية –كما يقول العلماء من ألف سنة أو يزيد- هي
ثلاثة: العقيدة، والفقه، والتزكية (أو التصوف)
فعلم العقيدة يبحث بالأدلة العقلية وغيرها عن الحق، ويجيب عن الأسئلة الثلاثة التي لطالما حيرت البشر: من أين جئنا؟ وإلي أين نذهب؟ ولماذا؟. وعلم الفقه هو الذي يبحث في السلوك البشري ويهدف إلي تحقيق الخير بين الناس في سلوكهم عبر ميزان الشرع الدقيق المرشد إلي جانب الخير من كل سلوك بشري. وعلم التصوف وبعض مباحثه تتصل بالجمال وكيف يترقي الإنسان في ادراكه.. فهو علم مبناه علي التذوق، والوجدان.
فهذه مقالات سبع سأبدأ في كتابتها (اثنتان منها حول قيمة (الحق)، واثنتان حول (الخير) واثنتان حول (الجمال)).. أحاول أن أفكر فيها في معاني هذه القيم الثلاث، وكيف يتحقق الإنسان بها.. وما أنا إلا جامع لتأملات أهل الشأن في هذه الأمور.. وأنا وإن كانت بضاعتي مزجاة، وليس عندي حصيلة تدفعني إلي الكتابة، غير أنني أستفيد من الكتابة فائدة عظيمة في التفكير، والبحث، والقراءة، ثم عرض نتائج هذه الأمور علي أهل العلم والفضل.. فأستفيد من تعليقهم ومناقشاتهم.. وهذه هي المقدمة.. والمقدمات – كشأنها دائما – مملة.. :)
هي فرصة للتفكير، والبحث، والتأمل خارج دائرة الأحداث اليومية التي تكاد من فرط تتابعها وتأثيرها تأخذنا من كل تأمل وكل تفكير..
اقعدوا بعافية..
بقلم: أحمد فتح الباب
⇐ طالع المزيد من المقالات أيضًا: