لماذا ندرس العديد من المواد رغم أننا نتخصص في نهاية المطاف في مجال واحد؟

لماذا ندرس العديد من المواد رغم أننا نتخصص في نهاية المطاف في مجال واحد؟

يتساءل كثير من الطلاب عن جدوى دراسة مواد متعددة في مسيرتهم التعليمية، خاصة عندما يجدون أنفسهم في النهاية يعملون في تخصص واحد فقط. فعلى سبيل المثال، نجد طالب كلية الطب يدرس الجراحة، والباطنة، والأطفال، والنساء، والسموم، والتشريح، وغير ذلك. وطالب كلية الهندسة يدرس الرسم، والفيزياء، والميكانيكا، ثم يتخصص في فرع واحد مثل الهندسة المدنية ليكمل بدراسة مواد دقيقة كالخرسانة والهيدروليكا والطرق والكباري. كذلك طالب التجارة يمر بمزيج من مواد تشمل الاقتصاد، والمحاسبة، والتسويق، واللغات، والقانون.

إذن، لماذا لا ندرس منذ البداية فقط ما نحتاجه في التخصص؟ وما الهدف من كل هذا التعدد؟

المرحلة التأسيسية: ضرورة بناء القاعدة المعرفية

في بداية حياة الإنسان التعليمية، من الضروري أن يكتسب المهارات الأساسية كالقراءة، والكتابة، والحساب. هذه المهارات تمثل أدوات لا غنى عنها لفهم الحياة وتعلّم المهارات اللاحقة. ورغم إمكانية اكتساب هذه الأساسيات من البيئة أو من الإنترنت في زمننا الحالي، إلا أن وجود منهج تعليمي منظم يجعل عملية التعلم أكثر فاعلية، ويمنح الطالب مسارًا واضحًا يسير عليه.

لهذا السبب، تأتي أهمية المدارس في المراحل الأولى، حيث تعتمد المناهج الموضوعة على خبرات المتخصصين في التعليم لبناء قاعدة معرفية صلبة للطفل، دون أن تُترك له حرية اختيار ما يدرسه في هذه المرحلة.

التعليم الإعدادي: بداية التوسع التدريجي

مع الانتقال إلى المرحلة الإعدادية، يبدأ الطالب في التعرّف على مفاهيم جديدة أوسع، مثل العلوم الطبيعية، والتجارب المعملية، وفروع الرياضيات. كما يتم تعزيز مهاراته اللغوية، سواء في اللغة الأم أو اللغات الأجنبية، مما يجعله أكثر استعدادًا لفهم العالم بشكل أعمق.

رغم أن المرحلة ما تزال ضمن التعليم الأساسي، فإن الطالب يبدأ فيها في تذوق طعم التخصص بشكل تدريجي، دون أن يكون قد حسم ميوله بعد.

المرحلة الثانوية: التخصص المبدئي وتحديد الميول

تُعد المرحلة الثانوية نقطة تحول، إذ تتشعب المواد بشكل كبير. فالعربية تنقسم إلى نحو وصرف وبلاغة، والعلوم تتجزأ إلى فيزياء وكيمياء وأحياء، والرياضيات تتفرع إلى جبر وتفاضل وتكامل، وغير ذلك. كما تظهر مواد جديدة كالفلسفة، وعلم النفس، والاجتماع.

الهدف من هذا التنوع ليس تعقيد النظام، بل على العكس، هو وسيلة لإعطاء الطالب نظرة شاملة على مختلف المجالات، حتى يستطيع اكتشاف ما يحب ويميل إليه، مما يساعده على اختيار تخصصه الجامعي بناءً على وعي وتجربة سابقة، لا مجرد توقع أو تقليد.

الجامعة: هل هو تكرار أم ضرورة تعليمية؟

قد يظن البعض أن الجامعة يجب أن تكون مرحلة التخصص البحت، لكن كثيرًا ما يُفاجأ الطلاب بأنهم ما زالوا يدرسون موادًا متنوعة. وهنا تظهر ثلاثة تفسيرات لهذا التعدد:

1. خلل في النظام التعليمي

قد يكون التعدد نتيجة نظام جامعي غير فعّال لا يركّز على التخصص كما يجب، ويقدم مواد لا تضيف قيمة حقيقية للطالب. وهذا التفسير موجود بالفعل في بعض المؤسسات.

2. التمهيد للتخصص العميق

في بعض التخصصات، لا يمكن الدخول مباشرة في لبّ الموضوع دون المرور بالأساسيات. فطالب الهندسة مثلًا لا يستطيع فهم تصميم المنشآت قبل دراسة خصائص المواد، وخواص الخرسانة، ومفاهيم التحليل الإنشائي. وبالتالي، فإن هذه المواد ليست زائدة، بل تمهيدية وضرورية للتعمق في التخصص.

3. التداخل بين التخصصات

هناك مجالات، مثل الطب، تكون مترابطة بطبيعتها. فالمتخصص في أمراض الصدر يجب أن يعرف وظائف الرئة، وتركيب القفص الصدري، وأمراض الأنف والأذن المرتبطة بجهاز التنفس. وبالتالي، فإن معرفة بقية أجهزة الجسم ليست رفاهية، بل شرط أساسي للإتقان المهني.

الخلاصة: ليست كل المواد عبئًا

من هنا يتبيّن أن تعدد المواد عبر المراحل التعليمية ليس دائمًا أمرًا سلبيًا، بل يمكن أن يكون وسيلة فعّالة لتوسيع آفاق الطالب، وتحديد ميوله، وتوفير الأساس المعرفي الذي يحتاجه في تخصصه لاحقًا.

فالخلاصة هي أن تقييمنا لأي مادة يجب أن يعتمد على هدف وجودها، لا على عددها أو بساطتها. فإن كانت تخدم غرضًا تعليميًا واضحًا، فهي ضرورية. أما إذا كانت فقط حشوًا وتضخيمًا للمحتوى، فهي حينها تصبح عبئًا حقيقيًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error:
Scroll to Top