«اهجرني لأعيش»! جملة ربما لا تحمل الكثير من المضامين لبعضهم، إلا أنها تحمل الكثير من المعاني والأهداف للكثير من السيدات اللاتي بتن يتعلقن بها، أملا في الحصول على «دراهم»، من الدولة يقتتن بها، ليضاعفن غلتهن الشهرية، ويستفدن منها في توفير الكماليات، في ظل احتفاظهن بكل الضروريات.
والمعنى الذي لجأت إليه السيدات، لا يخرج عن ورقة تسمى «صك الهجران»، تفتح لهن أبواب الضمان الاجتماعي، بدءا من السجل وانتهاء ببطاقة الصراف الآلي.
فلا أحد يستطيع الوقوف أمام الأوراق الرسمية، ولا أحد يجرؤ على منع «مهجورة» من زوجها، من حقها في الحصول على أبسط أبجديات الضروريات، رغم اليقين بأن من قدمت أوراقا رسمية لا غبار فيها، ليست إلا «محتالة من الدرجة الأولى».
فماذا يحدث في الدهاليز خارج الضمان الاجتماعي، وهل الحصول على ضمان سهل إلى الدرجة التي يمكن النفاذ منها من غير المستحقات، وهل التلويح بين عشية أو ضحاها بسحب بساط الضمان عن غير المستحقين، يعد إحقاقا للحق، أم انتقاما من الضعفاء، وهل الحصول على أموال بغير وجه حق من الضمان جريمة يمكن أن يعاقب عليها النظام، أم جرم ينتهي بنهاية سحب المستحقات، ثم ماذا يعني «صك الهجران» للسيدات اللاتي يعشن حياة طيبة مع أزواجهن، ثم يطلبن المزيد من الأموال من الدولة، سحبا من رصيد الفقراء والمحتاجين والمعوزين الحقيقيين؟
ضمان سهل
أصبح من السهل جدا على أي متزوجة تعيش مع زوجها الموظف وأبنائها عيشة مستقرة ماديا وسكنيا، الحصول على معاش شهري ثابت تتحكم فيه وتنفقه كيفما تشاء، دون أي عناء.
والسبب أن الكثير من المتزوجات بعن ضمائرهن، وتخلين عن ذممهن، بالاتفاق مع أزواجهن العاملين في وظائف حكومية وغيرها، وذلك من أجل الحصول على المال بطرق ملتوية.
نزعوا عباءات الخجل، وتنصلوا من أبجديات الأخلاق وعلوم الدين في الحق والمستحق، وارتدوا عباءات الذل وراحوا يسارعون الخطى صوب مكاتب الضمان الاجتماعي.
رفعوا شعار أوحد «مهجورات من أزواجنا.. طال عمرك».
والدليل حسب شكواهن، أن الزوج «اعتاد الغياب لشهور عديدة، فلا نفقة منهم ولا صرف على الأبناء».
أما المطلوب «ضمان اجتماعي»، فيما مسوغات إثباته لا تخرج عن ورقة «صك الهجران» من المحكمة المختصة، التي بدورها لا تطلب الكثير من الأوراق، بل شهادة أربعة يحلفون بالله أنها من الصادقين.
تدفع لهم السيدة أموالا مقابل «اليمين»، وتسارع إلى مكاتب الضمان في مدينتها، فتهديهم الإثبات، وتنال المطلوب.
أما البحث الاجتماعي فحتما لن يظهر ما عجزت المحكمة عن إظهاره، فلا عبرة لما يقال، بل العبرة بالإثباتات، والنتيجة «السيدة.. تستحق الضمان!».
إثبات اني مهجورة.. تحايل مكشوف
الباحث الاجتماعي من أحد مكاتب الضمان الاجتماعي بجيزان “عبدالله م”، يعيش يوميا سيناريوهات مماثلة في التحايل على الضمان الاجتماعي، حيث يرد إليه العديد من الحالات التي ربما يشك في تفاصيلها، لكنه لا يستطيع فعل شيء، مبينا أن «الضمان الاجتماعي أسس وأنشئ ليؤدي عملا إنسانيا خيريا عميقا، ومد يد العون والمساعدة لفئات محددة من مجتمعنا ممن عصفت بهم ظروف الحياة، ويعيشون بين ظهرانينا ظروفا معيشية سيئة مادية وصحية وسكنية، بعضهم نعلم عن أوضاعهم المحزنة، وبعضهم لا نعلم بأحوالهم المعيشية الصعبة، والفئات التي تستحق إعانة الضمان الاجتماعي هي فئات محددة، مثل الأرامل والأيتام والمرضى وكبار السن ممن لا دخل لهم، أو دخلهم المادي ضئيل جدا لا يفي بمتطلبات حياتهم المعيشية، بعد دراسة أوضاعهم دراسة ميدانية دقيقة».
تنوع المساعدات السبب
واعتبر مهدي أن التطورات الجديدة التي يشهدها الضمان الاجتماعي، وتنوع المساعدات المالية المقدمة، دفعت من لا تنطبق عليهم شروط الحصول على إعانات ومساعدات الضمان الاجتماعي، إلى استغلال إقبال الضمان على المستفيدين المستحقين ومنحهم مساعدات متنوعة، واستطاعوا التحايل على النظام بطرق ملتوية ومغلوطة، للدخول ضمن قوائم المستفيدين المستحقين، ومن هؤلاء النساء المتزوجات، اللاتي يعيش أوضاعا مادية وسكنية وصحية مستقرة مع أزواجهن، إلا أنهن طرقن باب الضمان الاجتماعي، باتفاق تام مع أزواجهن، بحجة أنهن مهجورات من الأزواج، ولا يحصلن منهم على النفقة المطلوبة مع أبنائهن، ويطلب منهن الضمان الاجتماعي على أثر دعوتهن، إحضار صك هجر من المحكمة، ويمنحهن خطابات رسمية، تسلمها الزوجة المدعية، وموجهة إلى المحكمة، التي بدورها عند تسلم الخطاب تطلب من الزوجة إحضار أربعة شهود لإثبات أنها مهجورة من زوجها، وهنا تسهل المهمة على الزوجة في توفير الشهود كذبا وزورا، ممن باعوا ذممهم، من أجل حفنة من المال، وفي لمح البصر تحصل الزوجة على صك الهجر لتقدمه فورا للضمان الاجتماعي، الذي يقتنع بصحة الهجر، ويبحث حالة الزوجة مدعية الهجر ويضمها مع أبنائها إلى المستحقين لإعانة الضمان، بصرف مخصص شهري لها ولأبنائها، رغم أنها تعيش مع زوجها داخل منزل مشترك بكل سعادة وسرور».
ولم تكن الحالات التي يلتقيها الباحث مهدي يوميا، مجرد حالات استثنائية، لأن الباحث الاجتماعي «م. ر» الذي يعمل في مكتب ضمان اجتماعي آخر في جازان، يذهب لأبعد من ذلك، عندما يحدد نسبة التحايل على الضمان الاجتماعي «لا أبالغ إن قلت إن 90 % من النساء المهجورات اللاتي يحصلن على إعانة شهرية من الضمان، لا يستحققن هذه الإعانة، لأنهن غير مهجورات، ويعشن مع أزواجهن وأسرهن في أفضل حال، ويحصلن على نفقة كاملة من أزواجهن، ولكن من أجل الطمع والحصول على المزيد من المال، وجدوها وسيلة للتحايل على أنظمة الضمان الاجتماعي، بعد أن ضعف لديهن الوازع الإنساني أمام بريق وسطوة المال، واستخرجن بالاتفاق مع أزواجهن صكوك هجر غير صحيحة، عن طريق المحاكم، للحصول عن طريقها على كامل المخصصات الشهرية والإعانات الدورية، التي يقدمها الضمان للمستفيدين الحقيقيين».
وشدد الباحث على أن التحايل «للأسف يجد سبيله في المرور رسميا، في ضوء المستندات الرسمية التي تقدمها الزوجات، وشهود الزور، وفي بعض الأحيان عن طريق الإبعاد المؤقت للزوج، وصولا لشهادة حق من بعض المقربين، فيما يشبه الأفلام السينمائية، لتعود المياه لمجاريها بمجرد الحصول على صك الهجران، وربما احتياطا بعد الحصول على بطاقة الضمان، لذا على المحاكم الشرعية ومكاتب الضمان الاجتماعي التعاون والتواصل فيما بينها، لاكتشاف تحايل هؤلاء المدعيات للهجر، وإبعاد وإسقاط من لا يزلن تصرف لهن إعانة الضمان الاجتماعي، أو ممن يحاولن الحصول على هذه الإعانة الضمانية دون وجه حق».
إيقاف الصكوك
لكن على الجانب الرسمي، أوقفت محاكم جازان إصدار صكوك الهجر للزوجات، بعدما اتضح كم التحايل في هذا الأمر.
وكشف رئيس محاكم منطقة جازان فضيلة الشيخ علي المنقري للصحافة؛ أنه «اضطررنا إلى إيقاف تلك الصكوك، في أعقاب اكتشاف الكثير من الأمور الخفية، وتنبهت المحكمة الكبرى بجازان مع بقية المحاكم الفرعية لهذه القضية، بعد الازدياد الكبير والملحوظ لطلب هذه الصكوك من قبل الزوجات، واكتشفنا الأمر، بعدما كانت المحاكم بفروعها في المنطقة تمنح صكوك الهجر لكل زوجة تدعي الهجر من زوجها، وعدم حصولها على النفقة لها ولأولادها، على أن تحضر الزوجة المدعية الهجر بطلب أو خطاب رسمي من الجهة الحكومية التي تطلب من الزوجة تقديم صك هجر، لكن اتضح أن أكثر الخطابات دائما ما تأتينا من مكاتب الضمان الاجتماعي بالمنطقة لأمور مالية، عندها اتضحت الحقيقة أمامنا».
حسن الظن
واستبعد المدير العام للضمان الاجتماعي بمنطقة جازان الشيخ محمد بن عثمان الحكمي «سوء النية»، في التعامل مع السيدات المطالبات بالضمان الاجتماعي، بداعي هجرة الزوج «عندما تحضر الزوجة إلى مكتب الضمان الاجتماعي، تشرح وضعها الاجتماعي والمادي والسكني، وتشكو هجران زوجها لها ولأبنائها وعدم النفقة، وأن زوجها يغيب عنها وعن المنزل من عدة أعوام، وتطلب الحصول على إعانة الضمان الاجتماعي الشهرية للعيش منها مع أبنائها، نقوم بدورنا في الضمان الاجتماعي بحسن الظن بها، والاستماع إلى شكواها بكل إنصات، ثم نتبع الإجراءات النظامية بحق المهجورات، أو من تدعي أنها مهجورة، حيث نحيلها أولا إلى المحكمة الشرعية عبر خطاب رسمي، نطالب فيه بصك هجر شرعي يثبت أن المرأة أو الزوجة المتقدمة للضمان مهجورة، وفي حال تجاوب المحكمة معنا وإحضار الزوجة المعنية لصك الهجر، يعد باحث اجتماعي بحثا ميدانيا دقيقا من كل النواحي عن الزوجة المهجورة، وبعد إعداد الباحث تقريرا كاملا عن وضع الزوجة وهجرها، تقبل في الضمان الاجتماعي، وتصرف لها وعلى حسب العدد مع أبنائها الإعانة المالية ولمدة عامين فقط، وبعد انتهاء المدة المقررة تُسقط من الضمان، وعليها إحضار صك هجر حديث لإعادتها إلى الضمان».
امتناع ولكن
وبين الحكمي أن «الضمان لاحظ في الآونة الأخيرة، امتناع المحاكم عن إعطاء صكوك هجر جديدة للزوجات اللاتي انتهى بهن عاما الضمان، وطالبن بصكوك هجر جديدة، إضافة إلى توقف المحاكم عن إعطاء صكوك هجر للزوجات والمدعيات للهجر والمتقدمات للضمان كحالات جديدة «ولكن صدرت التعليمات من قبل الوزارة أنه في حالة عدم حصول الزوجة المدعية للهجر على صك الهجر من المحاكم، نتسلم طلب الزوجة في الضمان، ونبحثها بحثا ميدانيا شاملا ودقيقا، وإحضارها لاثنين من ذوي العصبة من أقاربها للإدلاء بالشهادة، على استمارة خاصة بأن الزوجة مهجورة، أو لم تزل مهجورة، وبالتالي تصرف مساعدة مقطوعة، أي تُمنح مبلغا ماليا معينا عبر شيك مستقل خاص من دون حصولها على إعانة شهرية مستمرة، إلا إذا أحضرت صك هجر من قبل المحاكم الشرعية».
تحقيق بقلم: عبدالله السروري