الحديث عن الصدقة هو حديث ذو شجون، لأنه حديث الواثقين بعطاء الله، حديث المصدقين بالخلف. حيثُ يوجد أُناس تحت الأرض ماتوا ولربما تقاربت الأرض عليهم يوم أن ماتوا، اليوم انفرجت وانقلب الضيق إلى سِعة، والنار إلى جنة، وترقّوا في درج الجنة بسبب صدقات وصلت إليهم في تلك اللحود، فنورتها.
وهنيئًا أيها الأحباب لمن كان يبذل هذه الدنيا حتى يصل لرِضا ربه.
الصدقات من مال الله وليس مالك
هل نحن نملك ما في أيدينا؟ العجيب أن بعضنا مسكين، يعتقد أن المال الذي كسبه بدنياه وجهده وبيعه وشرائه والوظيفة وقد اغتنى بعد أن كان فقيرًا، يعتقد أن ذلك من حولِه وقوّته. ولذلك بعضنا إذا دُعي الى باب الإنفاق، أمسك وقال “مالي مالي”.
وفي الحديث يقول رسول الله -ﷺ- لذاك الذي يقول “مالي مالي” قال “يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟!” رواه مسلم.
المال إما أن تتمول وتبني به جسرًا وتعرج به إلى رضوان الله، وإلا فإنك ستحزن. ففي المقابر أنين وبكاء لأغنياء وتجار وعندهم أموال ومساهمات، وكان كل ما قيل لهم: تصدق، هذا يتيم، هذه أرملة. قال: غدًا غدًا. الآن هو بمقبرة، رحل وانتهى وترك المال لورثته.
العجيب أن المال للورثة لو تصدقوا هُم منه صار الأجرُ لهُم، والمال مالُه. وهذا من ظُلم النفس.
الله –الوكيل جلّ وعلا- قال “وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ”. فليس المال مالك، هو مال الله، وأنت خليفة في هذا المال. ولذلك قال -تعالى- “وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ”. الذي أعطاك هو الله وحده.
الصحابة -رضي الله عنهم- بفكر عالِ وتفكير منطقي صحيح علموا أن الله هو الذي أقرضهم، ثم هو الذي استقرضه منهم. ولذلك عندما سمع “الصديق” قول الحق “إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ” بكى، وقال “هو الذي وهب المال وهو الذي استقرضه وهو الذي جعل بعد ذلك جزاءه الجنة”.
لذلك، الفقراء قديمًا -وربما حاليًا أيضًا- كانوا إذا ارادوا أن يستعطون، يقولون: أعطونا من مال الله. في رسالة جميلة، وكأنَّه تذكير “المال ليس لك، هو لله وأنت عبده والمال ماله وهو مستخلفك فيه وناظر ماذا تصنع فيه ومُبتلى فيه”.
بل إن العبد الفقير المسكين إذا بسط يده أمامك فلم تعطيه، أنت لم تعط الله، وأنت لم تُحسِن لنفسك. ولذلك في الحديث قال الله -تعالى- “يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب، كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي”.
أوتعرِف أول أمنية للميت، إذا مات “قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ”. لكن ماذا يريد من الصالحات؟ تأمّل في قول الحق جل وعلا في آخر سورة المنافقون “يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون – وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون”. وقتها.. من الذي مسك يدك؟
وهناك أيضًا، الذي ينفق أردأ وأقل ما لديه، كالكسور من ماله، وحذاء قديم، وجلباب متهالك. يقول تعالى “لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ”.
وأنت الآن تُقدم لله ما تكره؟
الصدقة دأب العقلاء
ويقول الشيخ سعد العتيق أن أعقل الناس من لا يضع ماله في مصرف أو بنك لينميه، ولكنه يضعه عند من وهبهُ إيّاه. يقول -تعالى- “مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ”.
ومن يتحجّج بقلة المال، ولا يتصدق، فانظر هنا حديث عن الصدقة يقول فيه ﷺ «اتقوا النار ولو بشق تمرة». هل هناك أقل من شق تمرة لديك، تتصدق به، فلربما يكتب الله لك الجنة بها.
جُدْ بأجود ما لديك
وتدبَّر، المال لا يدخل معك القبر، لكنه قد يسبقك، لأنك أنفقته في حياتك، فأصبح مكتنزًا لك قبل موتك عند المولى -تعالى- على هيئة حسنات.
ولعلمك، التصدق بالفائض عنك لا بأس به، لكن تذكر أنك تُعطي وتتصدق مما تُحب، ولله عز وجل، فهل يليق أن تُخرج الخرِب المُهترئ الفاسد؟
أنت تُكرم ضيفك بأجود ما لديك، وهو من البشر، وبالأخير تستحي منه! فكيف الحال مع رب الناس، الذي أعطانا ورزقنا كل شيء؟
وتذكر أيضًا وعد الحق -الكريم- “فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى”.
أنفقوا مما تحبون
بعض السّلف كان يتصدق بالسكر -كانوا قديمًا يرونه فاكهة- فكان يتصدق بالسكر، وقال: لأني أحبه.
وذات مرة أيضًا، أحدهم كان لابسًا جبّة، وكانت من أجمل ما لديه، وكان في الشتاء، ومرّ عليه فقيرًا، فقلعها ثم ألبسها الفقير، وهو يردد قول الله -تعالى- “لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ”.
فمن يُنفقون من أجمل وأغلى وأفضل ما لديهم، فهم لا يفعلون ذلك لأنهم لا يحبون الدنيا أو يكرهون الدنيا، لكنهم وثقوا في عطاء الله وفي خلف الله. وتذكروا حديث عن الصدقة للنبي -ﷺ- يقول فيه “كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ – أَوْ قَالَ: يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ -“.