نستقي اليوم خطبة عن فضل الشهادة والتضحية في سبيل الوطن؛ تلك التي ستكون حروف إلهام لك على المنبر عندما تُلقي خطبة الجمعة القادمة.
نحن هنا في ملتقى الخطباء نوصيك بمزيد علم وتثقيف حول الأمر والموضوع؛ فهو بحَق أحد أبرز الموضوعات التي يجب التحدث عنها دوريًا.
مقدمة الخطبة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، عالم الغيب وقابل التوب، من يغفر الذنب ويأخذ به إن شاء، وسبحان من بيده مقاليد الأمور في الأرض والسماء، تسبح الطير بحمده والملائكة وما من شيء إلا يسبح بحمده، تقدست أسماءه وتفرد بالجلال والكمال،
والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، ولا بشراً يضاهي قدره ولا يبلغ فضله، ولا نصير لنا ولا منجي لنا من فتن الحياة والممات إلا طريقه وسنته ومنهجه الكريم وصراطه المستقيم، سيد الخلق وشفيع الأمة، من كشف الله على يديه الغمة، وعلى آله الأطهار وأصحابه الكرام الأخيار، وتابعيهم وتابعي التابعين بإحسان إلى يوم الدين؛ ثم أما بعد:
الخطبة الأولى
فإن حديثنا اليوم سوف يدور حول (فضل الشهادة والتضحية في سبيل الوطن)، وما للشهادة من قيمة عظيمة ومكانة عالية وغالية بين سائر العبادات وعلى رأس قائمة القربات والأعمال الصالحة، ولنبدأ بالحديث عن أجر الشهيد وما أعد له من عظيم الثواب وما ينتظره من عطايا الوهاب، ثم نقترب من مفهوم الشهيد ونعرف إذا ما كان الشخص الذي يقتل في سبيل وطنه هو بالفعل شهيد أم لا، ونسأل الله العظيم إن يوفقنا إلى حسن القول والعمل فهو ولي ذلك والقادر عليه.
لو أردنا أن نتحدث عن أجر الشهيد وفضله وما أعد له من الطيبات والكرامات والهبات لما كفتنا في ذلك الكتب ولا المجلدات، ولما أسعفتنا الكلمات، فما أعده الله للشهيد جد عظيم، ومنزلة الشهيد في الدنيا والآخرة جد خاصة ومشرفة لا يبلغها من الناس إلى من خصه الله وكان من أصفيائه وأولياءه والصادقين والمؤمنين حقا، والمخلصين لله عز وجل قولاً وفعلاً.
ولأن الشهادة في سبيل الله هي تجارة رابحة وبيع موفق يبيع الإنسان فيها نفسه وحياته ودنياه، ويختار التخلي عن أهله وماله ويستبدل طول الأمل بقرب الأجل، ويترك التعلق بالدنيا ونعيمها ويواجه الموت برهبته ومهابته مبتغياً بذلك وجه الله عز وجل، ونيل ما عنده من الأجر فلا عجب أن يعظم أجره ويعطر الله ذكره، فيصف الصفقة الرابحة في كتابه العزيز قائلا جل وعلا: ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيقْتُلُونَ وَيقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيعِكُمُ الَّذِي بَايعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
أما في معرض الحديث عن أجر الشهيد فإن القرآن الكريم ذكره في أكثر من موضع وبينه وأكد عليه، وجاءت السنة النبوية المطهرة تعضض المعنى وتعززه وتبينه وتفصل مجمله، فقد شرف الله قدره وأعلى منزلته وجعل رفقته في الجنة بغية المؤمنين وأمنية الصالحين، يقول عز وجل في محكم التنزيل: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا).
ومن أعظم فضل الله على الشهيد أن يصفه بأنه حي عند الله وكأن الموت لا يمسه أو يطوي ذكره فيقول: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ).
أما نبينا الكريم –صلى الله عليه وسلم- فأخبرنا من خبر الشهيد الكثير والكثير مما يعلمنا مكانته وفضله وعظيم أجره، فقد روي عنه _عليه السلام- العديد من الأحاديث الشريفة التي تنص على الأجر العظيم المعد للشهداء.
ومنها حديث أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (يؤتى بالرجل من اهل الجنة فيقول الله له: يا ابن آدم ! كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أي رب! خير منزل، فيقول: سل تمنَّهْ. فيقول: وما أسألك وأتمنى؟ أسألك أن تردني إلى الدنيا فأُقتل في سبيلك عشر مرات، لما يرى من فضل الشهادة)، كذلك حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- حيث قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته) حديث صحيح.
وقد جمع عدد من خصال الشهيد وكراماته وما يمن الله به عليه من الفضائل والأجر الكريم في حديث معروف وكثيراً ما يستدل به على منزلة الشهيد، ويستشهد به في معرض الحديث عنه، وهو حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (للشهيد عند الله سبع خصال: أن يُغفر له في أول دُفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلَّى حلَّة الإيمان، ويُجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار, الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويُزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويُشفَّع في سبعين إنساناً من أقاربه) حديث صحيح.
أما من هو الشهيد؟ وهل الشهادة والتضحية في سبيل سلامة الوطن وأمنه مظنة الأجر والثواب الذي تحدثنا عنه وأوردناه آنفا؟ فهذا ما سنتطرق إليه ونوضحه.
الشهيد هو من قتل في سبيل الله في معركة مع أعداء الله، يسعى بذلك إلى رفع كلمة الله ورفع راية الدعوة، أو نشرها أو فتح البلاد، ابتغاء مرضاته، دون نظر إلى عرض من الدنيا ولا سمعة ولا مال، وقد ورد توضيح الشهيد حيث قال عليه الصلاة والسلام: (من قتل دون ماله فهو شهيد من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد).
ومن هنا نستنتج أن من ما ت دون وطنه وعرضه وأرضه فهو شهيد، فالوطن هو موطن المرء ومقر أهله، وفيه سكناه ومستقره، وانتهاك أرض الوطن بمثابة انتهاك العرض، لذا كان المدافع عن وطنه والمضحي لأجله والمجاهد في سبيل سلامته شهيد في سبيل الله وينال بإذن الله كل ما يناله الشهيد في سبيل الدين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد:
فإننا بصدد الحديث عن فضل (الشهادة والتضحية في سبيل الوطن)، وما تعنيه من مكانة عظيمة ومنزلة كريمة، فالإنسان المدافع عن وطنه، والمضحي لأجل سلامته هو الحر الكريم العزيز النفس، والذي لا يقبل الدنية في نفسه ولا في دينه، ولا وطنه، الذي يأبى كبرياؤه وعزة نفسه أن يرى وطنه يستباح من عدو أو كاره أو حاقد، والحر الذي يأبى أن يغمض عينه ويغض الطرف عن الظلم الذي يلحق وطنه، ويصيب أهله ويؤذي كل من تظله سماء الوطن وتقلهم أرضه.
ومما أورده الإمام مسلم في صحيحه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ . قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: قَاتِلْهُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: فَأَنْتَ شَهِيدٌ . قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ هُوَ فِي النَّارِ.
ولعل المعتدي على الوطن هو ضمنيا معتديا على المال والعرض والأرض، فهو يسلب أهل الوطن استقرارهم ويبدد أمانهم ويروعهم وينشر الخوف بينهم، ويجور على مقدراتهم، وكل هذا يحمل المسلم الصادق الإيمان، الحر الذي لا يخشى في الله لومة لائم، على الدفاع عن الوطن وبذل كل غال ونفيس في سبيل نصرته، حتى وإن كلفه هذا الأمر حياته، فهو في سبيل الله وله أجر عظيم.
وفي الختام
أذكركم ونفسي بتقوى الله، ونسأل الله العظيم الكريم أن يحفظ بلادنا ويجعلها سخاء رخاء، وأن يرفع عنا كل بلاء ويكشف عنا الغلاء، ويوفق أولياء أمورنا إلى ما فيه صلاح حالنا، وأن يجعلنا جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وممن يأخذون الكتاب بقوة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.