كل شيء في الكون في حالة حركة وسير.. من الذرة إلى المجرة.. ومن البعوضة إلى الإنسان.
﴿كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [سورة الرعد].
﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون﴾ [سورة يس].
ذلك السبح الدائم المستمر هو سمة الكل… تشهدها في الميكروب المتناهي الصغر وتشهدها في سبح النجوم في السماوات.
هي طبيعة..
وطبيعة الحركة في الكون تشير إلى هدفية كلية تثير العقل والتفكير.
يقول أينشتين: إن الله لا يمكن أن يكون لاعب نرد بالكون ويقول القرآن: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِين﴾ [سورة الأنبياء].
هو إذن قانون وناموس ونظام مقرر وليس لعبا، والإنسان ضمن هذه المنظومة الهائلة المتحركة يتحرك هو الآخر ولا يكف عن السير.. وإذا كنا لم نستطع أن نكتشف إلى الآن القانون الموحد لحركة الكون -هو في نظر أرسطو سير إلى الله- فنحن نعلم على الأقل قانون حركتنا نحن البشر. وأننا منطلقون بشوق لا يهدأ نحو بلوغ الكمال والمثل الأعلي.. وليس المثل الأعلي ولا الكمال المطلق إلا الله.
﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [سورة الروم].
فنحن سائرون إلى الله أدركنا ذلك أم جهلنا وآمنا أم أنكرنا.. الكل سائر طوعا أو كرها.
﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾ [سورة الانشقاق].
والعارف هو الذي يدرك ذلك ويسعي إليه اختياريا ويباشره بوعي وقصد ذلك هو العارف الكامل الذي اختار السير بكرامة على السير بالعصا.
ومن هؤلاء من يسير هرولة. ومنهم من يسير وثبا.
ومنهم الطائر الذي اكتشف أن الاستقامة أقصر الطرق وأن الصراط المستقيم أقصر الخطوط إلى مولاه.. وهؤلاء هم أهل الله الذين خلعوا قمص التأجيل وشمروا السواعد وكسبوا أعمارهم بالموافقة، ولم يضيعوها في المخالفات.
ونسمع من هؤلاء ما يقولون عن طريق السير ومنازله وعلاماته ومنهجه.
ونختار واحدا من عظام المهاجرين إلى الله هو الصوفي العارف محمد بن عبدالجبار بن الحسن النفري -وهو الذي كتبت عنه كتابي رأيت الله- يقول النفري إن مبتدأ الرحلة هو خلع النعلين: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾ [سورة طه].
والنعلان هما: النفس والجسد.
والمعني المراد هو التجرد -التجرد عن النفس والجسد والانخلاع من النفس والجسد-.
يقول له ربه: أنا الله لا يدخل إلي بالأجسام.
كيف تخرج من جسمك وأنت في جسمك؟ وكيف تخرج عن نفسك وأنت في نفسك دون أن تقع في رهبانية خاوية وزهد فارغ مبتذل؟!
هذه رحلة النفري الغريبة والمثيرة.
وأول انخلاع لك عن نفسك وجسدك هو توبة من جميع الذنوب والمخالفات.. توبة نصوح واستغفار صادق وتوجه سليم لاغرض فيه سوي بلوغ الحق لوجه الحق.. ثم تأخذ أول قطار..
فلا بد لكل رحلة من قطار وأول قطار هو العلم.
والعلم عند النفري مطية ودابة تركبها لهدفك والخطر كل الخطر أن تركبك هي وتقودك وتجعل من نفسها هدفا لك.
والعلم لايصلح هدفا -فهو مجرد تحصيل المعلومات الجزئية عن الأشياء وروابطها وعلاقاتها- وذلك هدف المحجوبين من العلماء الذين وقفت همتهم عند إدراك الأشياء وعلاقاتها.. وهم الذين قال عنهم القرآن.
﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [سورة الروم].
أما أصحاب الهمم العالية فالعلم عندهم وسيلة إلى غاية أخري هي المعرفة.
والمعرفة عند النفري غير العلم. فالعلم تنتهي حدوده عند إدراك الجزئيات والمقادير والعلاقات بين الأشياء والقوانين التي تربطها.
ومنتهي العلم أن نكتشف أن جميع الأشياء الحي منها والميت مخلوقة من خامة واحدة ومركبة بخطة واحدة فكلها بدأت بذرة بسيطة هي ذرة الأيدروجين، انفرطت وأعيد تركيبها داخل الأفران النجمية الهائلة إلى عديد من التواليف هي ذرات العناصر الـ 93 ومن أحد هذه العناصر، وهو الكربون نشأت المادة الحية ومنها جاءت عائلة الأحياء كلها.
ثم إن هذه الأحياء من نبات وحيوان وإنسان بنيت أيضا بخطة واحدة وأسلوب واحد، فهي من خلايا متشابهة في الجميع تتنفس وتتكاثر وتتحرك وتتغذي وتطرد مخلفاتها بطرق واحدة وبأعضاء متشابهة وأجهزة متشابهة وقوانين متشابهة، ثم هي تموت وتتعفن وتتحلل إلى تراب بتحولات كيميائية واحدة.
وإذا كان الكون بجميع صوره وتواليفه مخلوقا من خامة واحدة على مقتضي خطة واحدة وأسلوب واحد وقوانين واحدة.. فخالقه بداهة لابد أن يكون واحدا..
وهذا منتهي ما توصلنا إليه رحلة العلم.
ونشد رحالنا بعد بلوغ هذا المدي إلى ذلك الواحد محاولين أن ندركه.
وهنا نكتشف أن دابة العلم لم تعد تصلح لسلوك باقي الطريق، فنحن أمام حقيقة لا يمكن إدراكها بالحواس ولا رصدها بالمجهر ولا قياسها بالبرجل.
إن الواحد الذي نطلبه هو فوق إدراك وسائل العلم ومتعال على الحواس، وهو من وراء الأسماع والأبصار.
وهنا لا بد أن نغير المطية ونستبدل المواصلة ونودع قطار العلم، فلن يعود للعلم جدوي فسوف نخرج من عالم الجزئيات من عالم الأشياء -عالم الملك والملكوت- إلى عالم الكليات وهو العالم الإلهي -الجبروت-.
ولن تجدي الحواس ولا المنطق العقلي ولا التحليل العقلي ولا الأدوات المعملية في إدراك العالم الإلهي فلابد من الخروج من ذلك القطار العاجز الذي اسمه العقل والمنطق العقلي والحواس الخمس، ومن العلم ووسائله ومختبراته إلى مرحلة جديدة يسميها النفري.. المعرفة.. ويفرق بين العلم والمعرفة بأن العلم يبحث في الكون، والمعرفة تبحث في المكون.. العلم بحث في المادي، والمعرفة تبحث في الغيبي.. ولهذا كانت وسائل العلم: المسطرة والبرجل والمجهر والتلسكوب والحواس الخمس والتحليل العقلي، أما وسائل المعرفة فهي: القلب والبصيرة والوجدان الصوفي.