ولدت السيدة مريم بنت عمران بعد أن ظلت أمها لسنوات عديدة عاقرًا لا تُنجب، فطلبت من الله ﷻ أن يرزقها بغلام صالح يكون من خدام بيت المقدس ويكون عونا لها؛ فاستجاب الله دعاءها فحملت، إلا أن زوجها عمران توفي أثناء حملها، وقبل أن يفرحا بالمولود.
وقد شاء الله تعالى أن يكون المولود هو السيدة مريم (عليها السلام) التي اصطفاها وفضلها على جميع نساء العالمين، وعندما ولدتها أمها دعت الله تعالى أن يحميها هي وذريتها من الشيطان الرجيم، قال تعالى على لسانها: ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّحِيمِ﴾.
وبالفعل نشأت السيدة مريم على طاعة الله ﷻ وحبه، وكان يرعاها نبي الله زكريا (عليه السلام) فكان يعلمها تعاليم الدين والقيم والأخلاق الحميدة؛ ومن ثم نشأت عفيفة طاهرة مطيعة لأوامر الله ﷻ، وكانت دائمة العبادة لله ﷻ في ليلها ونهارها، تتعبد في محرابها طالبة من الله ﷻ أن يعينها على طاعته وأن يعفها ويطهرها، وكان نبي الله زكريا (عليه السلام) كلما دخل عليها المحراب وجد عندها كل طيب ووفير من خيرات الله تعالى، كان يجد عندها ألوانًا من الأطعمة والفواكه في غير أوانها فيسألها: من أين لك هذا ؟ فتجيبه هو من عند الله، يقول الله تعالى ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنِ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
لقد كانت السيدة مريم (عليها السلام) تعرف بجميل أخلاقها وبحسن سلوكها وتدينها وتقواها، وكان أهلها يشهدون لها بذلك، وفي ذات يوم وهي في محرابها تتعبد جاءها سيدنا جبريل (عليه السلام) في المحراب فخافت منه، إذ كيف وصل لمحرابها والأبواب مغلقة قالت: أعوذ بالله منك إن كنت تقيا، فقال لها يا مريم أنا رسول من عند الله إليك، فبشرها بأنها ستلد غلامًا عظيم الشأن اسمه عيسى يكلم الناس في المهد، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكَ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾، في المهد أي: وهو وليد في سن الرضاعة فردت عليه السيدة مريم وكيف يكون لي غلام ولم أتزوج ولم يمسسني بشر؟! فقال لها: إن الله قادر على أن يخلق ولدك بلا زوج، فيكون ولدك عيسى آية للناس جميعًا، فلا تخافي ولا تحزني ولا يغضبك قول قومك عليك فإن الله معكِ.
وقد تحدث القرآن الكريم عن ذلك في مواضع، منها قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾.
وعندما اقترب ميعاد ولادتها ذهبت إلى الوادي البعيد لكي تلد، وهنا أسندت ظهرها إلى جذع النخلة وظلت تناجي الله وتدعوه، فناداها جبريل (عليه السلام) وبشرها بولادة نبي الله عيسى (عليه السلام)، ولكي يطمئنها ويهدئها أمرها أن تهز جذع النخلة تُسْقط عَلَيها رُطَبًا طيبًا، وأمرها بأن تأكل منه وتطمئن هي وولدها، وأن تعود به إلى قومها ولكن لا تكلم أحدا منهم بل تشير إلى سيدنا عيسى (عليه السلام)، وبعد مدة عادت إليهم ومعها نبي الله عيسى (عليه السلام) وهو في المهد، قال لها قومها: من أين أتيت بهذا الولد يا مريم؟! إن أباك كان من العلماء الصالحين وكانت أمك من العابدات الصالحات فكيف لك بولد دون زواج؟!
قال تعالى: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾، فلما سألها قومها عن أمره أشارت إليه، لكنهم سألوها في تعجب واستنكار كيف نكلم طفلًا رضيعا ما زال في المهد؟ وهنا وقعت معجزة عظيمة، حيث نطق الطفل الرضيع عيسى (عليه السلام) وقال لهم: ﴿إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾. فأنطقه الله ﷻ ليخفف عن أمه مريم (عليها السلام). وبهذه المعجزة العظيمة رد الله تعالى للسيدة مريم كرامتها، فعلموا مكانتها وأظهروا لها الاحترام والتقدير.