مدينة مارسيليا (Marseille) هي ثاني أكبر مدن فرنسا بعد العاصمة “باريس” مساحةً (241 كم²) وسكانًا (أكثر من 1.5 مليون نسمة منها جالية عربية وإسلامية كبيرة بالشكل الذي يرى معه الخبراء أن مارسيليا ستصبح أول مدينة ذات غالبية مسلمة في أوروبا الغربية)، وتقع مارسيليا على الساحل الجنوبي المطل على البحر الأبيض المتوسط، وتُعد أكبر الموانئ التجارية، واُختيرت كعاصمة للثقافة الأوروبية لعام 2013م.
مارسيليا تاريخياً
تاريخيًا أشارت حفريات مارسيليا إلى وجود البشر على أراضيها لـ 27 ألف سنة قبل الميلاد، لذا تُنعت دائمًا بأقدم مدن فرنسا، أما تشكُّلها كمدينة كان في العام 600 ق.م. على يد الإغريق الذين قدِموا من منطقة “فوتشا” في أقصى غرب تركيا، وأسموها حينها “ماساليا”، ومن ثَم تعددت منازلها الحجرية وتضاعف عدد المقيمين فيها.
وبمرور الأيام واجهت “ماساليا” المدينة الجديدة خطرًا عسكريًا بتحالف إتروسكان وقرطاج والكلت ضدها فقامت المدينة بتحصين نفسها، وعند هذه النقطة نُقلت “ماساليا” نقلة نوعية جعلت منها حلقة الوصل بين بلاد الغال (بلاد فرنسا حاليًا) وباتت تصدر السلع والنبيذ بحلول العام 500 قبل الميلاد، هذا التحول والثراء التجاري جعلها مطمعًا للقائد “يوليوس قيصر” الذي أمر بإحتلالها متذرعًا بوقوفها في صف عدوه “بومبيوس الكبير”، وخسرت بذلك المدينة استقلالها لأول مرة عام 49 قبل الميلاد.
ومع بزوغ نجم الحكم الروماني على أراضيها تمت مصادرة أسطولها البحري، وسُميت المدينة باسم “ماسيليا”، واستُبدلت البقايا الأثرية من الحقبة الإغريقية من خلال الإضافات الرومانية عليها، وحُكمت “ماسيليا” الرومانية هذه بالحديد والنار، وسُن فيها أغرب القوانين أبرزها تحريم شرب النبيذ على النساء وجواز مساعدة الناس على الإنتحار، إلا أن السكان الأصليين تأقلموا مع وضعهم الجديد واستمرت الحياة.
ظهرت المسيحية في مارسيليا منذ القرن الأول الميلادي، بل ورافق ظهورها إنشاء أبرشية كبيرة عُرفت باسم “أبرشية مارسليا”، وما لبثت بعدها أن تصدّعت الإمبراطورية الرومانية وسقطت مارسيليا في أيدي “القوط الغربيين” (الإيطاليين حاليًا)، ثم استولى عليها الفرنجة في منتصف القرن السادس الميلادي ومُنحت سلطتها للإمبراطور “شارلمان” وسلالة “الكارولنجيين”، وظلت على حالها كميناء تجاري شديد الأهمية، وفي العام 1262م ثارت المدينة في وجه الحكام الأنجويون لكن الثورة أُخمدت وعانى السكان من هول القتل والتذبيح، ثم تعافت لينتشر فيها الوباء حصدًا لأرواحها في العام 1361م، ثم تعافت لتُنهب على يد أعوان “تاج أراغون” في العام 1423م، ثم تعافت مجددًا حين دخلها في العام 1437م “ريناتو الأول” ملك نابولي الذي بنى فيها الحصون وجعلها أشد المدن الفرنسية تحصينًا بعد باريس، كما عمل الحاكم الجديد على رفع مكانة المدينة التجارية والإقتصادية والثقافية، كما استخدمها كقاعدة بحرية لإسترجاع مملكة صقلية التي ضاعت منه، وفي العام 1536م أصبحت مارسيليا قاعدة بحرية للقوات الفرنسية والعثمانية المتحالفة مما هدد الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وهلَّ على مارسيليا أواخر القرن السادس عشر ليجتاحها الطاعون مرة أخرى، لتفيق بعده بسنوات، فيجتاحها طاعون آخر في العام 1720م إلا أن مارسيليا هذه المرة عرفت طريقها لإنشاء المستشفيات فحوصر المرض قليلًا.
لم ينتهي الزخم التاريخي للمدينة وروعة ولوعة الأحداث عند هذا الحد، بل انخرط سكان مارسيليا بحماس في الثورة الفرنسية عام 1792م وأرسلت المدينة 500 متطوع إلى العاصمة باريس للدفاع عن الحكومة الثورية، وأثناء الرحلة غنَّى المتطوعون أغاني للثورة عُرفت تاريخيًا باسم “لامارسييز”، وما لبثت أن تحولت إلى النشيد الوطني لفرنسا منذ العام 1879م وحتى الآن.
القرنان التاسع عشر والعشرون شهدا نمو الإبتكارات الصناعية والتجارة البحرية وأسهم في ذلك توسع الإمبراطورية الفرنسية والفتوحات التي قامت لاسيما في الجزائر، كما أسهم في ذلك أيضًا افتتاح قناة السويس في مصر عام 1869م مما انعكس على نشاط الحركة في ميناءها، والذي انعكس الأمر برُمته على معالم المدينة ومبانيها وأنماط معيشة سكانها، ورغم تعرض المدينة للقصف من قبل القوات الألمانية والإيطالية عام 1940 وإحتلال الألمان لها في عام 1942م لعامين متتاليين، إلا أنه أُعيد بناء أجزاء كبيرة من المدينة في الخمسينيات بعد أن دفعت حكومات ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية وإيطاليا تعويضات مالية ضخمة لتعويض المدنيين الذين قُتلوا أو جُرحوا أو شُرّدوا أو خسروا أملاكهم بسبب الحرب.
مارسيليا سياحياً
ومن الناحية السياحية تتمتع مدينة “مرسيليا” بالكثير من المقومات والمزارات والإمكانيات التي تجعل منها واحدة من أكبر وأهم الوجهات السياحية الفرنسية، فقد تكون المدينة الفرنسية الوحيدة التي تمتلك حوالي 24 متحف و42 مسرح، هذا إلى جانب العديد والعديد من الأبنية والشواهد التاريخية والمراكز الثقافية العالمية والنوادي ودور السينما والمعارض الفنية وبيوت الأزياء، بالإضافة طبعًا لما تحتويه من أجمل شواطئ العالم والمتنزهات والحدائق المفتوحة.
هذا الحشد المعماري النابع من ذلكم الزخم التاريخي قد لا يخلق المساحة المقالية الكافية للحديث عن كل مَعلم وأثر على حدة، فهي الشواهد التاريخية والثقافية والفنية التي تحتاج في وصفها وتعريفها لصفحات مطولة، إلا أنه يمكننا القول إيجازًا أن مارسيليا لا تمتلك شيئًا إلا ويمثل فرصة وجرعة سياحية ترفيهية تاريخية وثقافية مذهلة، ففيها كاتدرائيات “نوتردام دي لا غارد” و”مرسيليا” ، وقصر “لونغشامب”، وشاطئ “دو برادو”، ومساكن “لو كوربوزييه” العتيقة، وميناء “فيوكس القديم”، والمدينة القديمة “لو بانير”، ومتاحف “موسيم”، وقلاع وحصون ومشاهد و… و…، حقًا قد فاته الكثير من لم يرى مارسيليا رؤية عين.