مقدمة الخطبة
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه الكريم: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، القائل: (تركتُ فيكم أيُّها الناس، ما إنِ اعتصمتم به، فلن تضلُّوا أبدًا: كتاب الله، وسُنَّة نبيِّه)، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الخطبة الأولى
وبعد: فقد أرسل الله (عز وجل) رسله وأنبياءه (عليهم السلام) لهداية البشر، والأخذ بأيديهم من الظلمات إلى النور، ومن طريق الهلاك إلى طريق النجاة والفلاح، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى: { لقد أرسلنا لنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}، ثم ختم سبحانه الرسالات بسيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، فجاء كما قال الله تعالى عنه: { شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا }، برسالة خاتمة، صالحة لكل زمان ومكان، وأنزل عليه القرآن الكريم، كتابا محكما، معجزا، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم أوحى إليه السنة المشرفة مفصلة للكتاب، وشارحة له، حيث يقول تعالى: { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى}، ويقول سبحانه: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): (ألا إني أوتيت القرآن، ومثله معه).
والمتدبر لكتاب الله (عز وجل) يجد أن الله سبحانه وتعالى قد جمع بين أوامره تعالى، وأوامر نبيه (صلى الله عليه وسلم) في أكثر من موضع، يقول سبحانه: { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ }، وقرن بىن رضاه سبحانه ورضا نبيه (صلى الله عليه وسلم) في قوله (جل شأنه: { والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين}.
كما قرن الله (عز وجل) طاعته بطاعة نبيه (صلى الله عليه وسلم)، حيث يقول تعالى: { من يطع الرسول فقد أطاع الله، وجعل سبحانه هذه الطاعة سببا في الرحمة، يقول (جل وعلا): { وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون}، ويقول (جل شأنه): { وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون}، وتتحقق هذه الطاعة باتباع سنته (صلى الله عليه وسلم)، يقول تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }.
وقد أجمع علماء الأمة وفقهاؤها على حجية السنة المشرفة، وأنها المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله (عز وجل)، يقول سبحانه: { وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا }، ويقول تعالى:
{ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا }، والسنة المشرفة تشمل: قوله (صلى الله عليه وسلم)، وفعله، وتقريره، يقول الحق سبحانه وتعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا }، وذلك في جميع أحواله (صلى الله عليه وسلم)، فعن عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما قال: كنت أكتب كل شيء معه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأريد حفظه، فنهي قريش عن ذلك، وقالوا: تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتكلم في الرضا والغضب ؛ فأمسكت، ثم ذكرت ذلك للنبي (صلى الله عليه وسلم)، فأشار بيد إلى فييه، فقال: (اكتُبْ؛ فوالَّذي نفْسي بيدِهِ، ما يَخْرُجُ منه إلَّا حقٌّ).
فالقرآن الكريم هو الأصل الأول للتشريع، والسنة المطهرة هي الأصل الثاني، حيث إنها شارحة ومفسرة ومبينة لما جاء في كتاب الله (عز وجل) ؛ لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أعلم الناس بمراد الله سبحانه، وقضاؤه (صلى الله عليه وسلم) وحكمه من قضاء الله تعالى وحكمه، يقول الحق سبحانه: { وما كان لمؤمن ولا مؤينة إذا قضى الله ورسوله أما أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ويقول تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }، ويقول سبحانه: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ }، وحذرنا الله سبحانه من مخالفة أمر رسوله (صلى الله عليه وسلم)، فقال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
ولقد فصلت السنة النبوية المشرفة كثيرا مما ورد مجملا في القرآن الكريم، فقد جاء الأمر بالصلاة والزكاة في القرآن مجملا، فقال سبحانه: { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}، فكيف نقيم أركان الإسلام من صلاة، وزكاة، وحج دون توضيح من السنة المشرفة؟ حيث فصل النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك، فقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، فبين الكيفية بفعله، وبقوله (صلى الله عليه وسلم): (إذا قمت إلى الصلاة، فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)، وفي الزكاة فصلت السنة كثيرا من فروعها، وحددت أنصبتها، وكذلك الحج، يقول (صلى الله عليه وسلم): (خذوا عني مناسككم).
وحين جاء رجل إلى سيدنا عمران بن حصين (رضي الله عنه)، وقال له: ما هذه الأحاديث التي تحدثوها وثم القرآن؟ فقال له: أرأيت لو أتيت أنت وأصحاب القرآن، من أين كنت تعلم أن صلاة الظهر عدتها كذا، وصلاة العصر عدتها كذا، وحين وقتها كذا، وصلاة المغرب كذا؟ والموقف بعرفة رمي الجمار كذا؟.
وكما فصلت السنة النبوية المجمل من القرآن الكريم، فهي أيضا قد تقيد المطلق، ومن ذلك تقييد الوصية بالثلث، فعن سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه)، قال: (كان النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُنِي وأنا بمَكَّةَ، وهو يَكْرَهُ أنْ يَمُوتَ بالأرْضِ الَّتي هاجَرَ مِنْها، قالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفْراءَ، قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أُوصِي بمالِي كُلِّهِ؟ قالَ: لا، قُلتُ: فالشَّطْرُ، قالَ: لا، قُلتُ: الثُّلُثُ، قالَ: فالثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثِيرٌ، إنَّكَ أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِياءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَدَعَهُمْ عالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ)، كما بينت السنة النبوية أن الوصية لا تكون لوارث، حيث يقول (صلى الله عليه وسلم): (لا وصية لوارث)، وذكرت السنة المطهرة تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وكذلك تحريم الجمع بين المرأة وخالتها، يقول (صلى الله عليه وسلم): (لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن | سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخوة الإسلام.. ونحن إذ نؤكد على مكانة السنة، وحجيتها، ومنزلتها في التشريع، فإننا – في الوقت نفسه – نفرق بوضوح بين ما هو من سنن العبادات، وما يندرج في أعمال العادات التي تختلف باختلاف الزمان، والمكان، وعادات الناس، مثل ما يتصل باللباس، ووسائل السفر، وغير ذلك مما يرجع لأعراف الناس، فلكل عصر عاداته التي تختلف عن العصر الذي قبله، وليس من المعقول القول أن نحمل الناس على عادة معينة في السفر، أو اللباس، أو الطعام بحجة الاقتداء بالنبي (صلى الله عليه وسلم)، فمرجع العادات إلى العرف، وإلى ما يلائم العصر والبيئة، ما لم يخالف ثابت الشرع الشريف، فحين عد الإمام الشافعي (رحمه الله) غطاء الرأس من لوازم المروءة، كان ذلك مراعاة لظروف بيئته وعصره، واليوم لا غضاضة في ذلك ؛ لأن | العرف والذوق لا ينكران ذلك.
ونؤكد أن أعدى أعداء السنة نوعان ؛ أولهما: المتاجرون بالدين، المحرفون له، الذين يلوون أعناق النصوص لمآرب خاصة، فيسفكون الدماء، ويخربون باسم الدين، ويحسبون أنهم يحسنون صنها، والدين منهم براء، وهؤلاء هم المتنطعون الذين حذرنا منهم النبي (صلى الله عليه وسلم) في قوله: (هل الممتنعون)، قالها ثلاثا، وعن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسم)، قال: (إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان).
وثانيهما: الذين لم يأخذوا أنفسهم بنور العلم وأدواته، وقد بين (صلى الله عليه وسلم) خطورتهم فقال (صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)، فالسنة الشريفة بريئة من أي تطرف يجنح بها عن سماحتها، وعن وسطية الإسلام ومنهجه، وتطرف آخر ينكرها بالكلية، حيث يقول (صلى الله عليه وسلم): (يوشك أن يقعد الرجل متكئاً على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما حرم الله).
إن الغلو والتفريط تطرف بعيد عن وسطية الإسلام ومنهجه، وظلم كبير للسنة النبوية التي تتسق كل الاتساق مع المقاصد العامة للقرآن الكريم، وبفهم مقاصدها | نقف على المقاصد العامة لديننا الحنيف، وهو بلا شك مدل كله، رحمة كله، سماحة كله، تيسير كله، إنسانية كله، وأهل العلم قديما وحديثا على أن كل ما يحقق هذه الغايات الكبرى هو من صميم الإسلام، وما يصطدم بها، أو يتصادم معها إنما يتصادم مع الإسلام، وغاياته، ومقاصده.
ومن هنا يأتي دور العلماء المتخصصين في تقوىم زىغ أهل الضلال والانحراف، حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): (يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ).
إننا في حاجة ماسة إلى أن فهم السنة من خلال مقاصدها، ومراميها، وألا نجمد، أو نتحجر عند ظواهر النصوص، دون فهم أبعادها ومقاصدها، ويتحقق ذلك بقراءة مقاصدية عصرية للسنة النبوية المشرفة، تتواكب مع روح العصر ومستجداته، وتقرب السنة النبوية العظيمة إلى الناس، هذا هو التجديد الذي تدعو إليه السنة المطهرة، حيث يقول (صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا).
وهنا أيضًا: خطبة عن بر الوالدين
اللهم وفقنا لفهم كتابك الكريم، وسنة نبيك (صلى الله عليه وسلم)، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما تعلمنا، واحفظ بلادنا، وسائر بلاد العالمين.