كيف خرج آدم من الجنة؟ لقد كان يعيش في النعيم، ويشعر بالسعادة والاطمئنان، ولم يكن يحس بأي خوف أو قلق ولكن الشيطان تسلل إليه وأغراه، فوقع منه العصيان لأمر ربه وأكل من الشجرة المحرمة عليه. وقد كان موقف حواء هو مشاركته في خطيئة العصيان للأمر الإلهي، فحواء لم تلعب دور الضمير الذي يمنع زوجها آدم من الخطأ وارتكاب المعصية، بل على العكس من ذلك فإنها شجعته وشاركته في خروجه عن الطاعة الواجبة عليه وعليها وبذلك خرج آدم وحواء من الجنة، وفقدا نعمة السعادة والأمان ونزلا إلى الحياة ليواجها ما فيها من صراعات ومتاعب وآلام، بعد أن كانا في غني عن ذلك كله.
وحكاية آدم وحواء وخروجهما من نعيم الجنة إلى جحيم الحياة، تتكرر كثيرا في حياة الإنسان، وذلك عندما يفكر البعض أن ما يملكونه من السعادة والطمأنينة يمكن لهم أن يحققوا أكثر منه فيندفعون إلى السير في طرقات مظلمة أملا في الوصول إلى أهداف أكبر مما وصلوا إليه بالفعل، وفي معظم الأحوال تكون النتيجة هي أن يفقد الإنسان ما تحقق له من سعادة ممكنة في سبيل سعادة وهمية تداعب خياله وأحلامه، وما هي في الحقيقة سوي لعنه تحل به وتقضي عليه.
وهذا هو ما حدث لبطل مسرحية شكسبير المعروفة ماكبث وما حدث لزوجته الليدي ماكبث أيضا وهذه المسرحية بالتحديد ينظر إليها بعض النقاد على أنها أفضل ما كتبه شيكسبير بين مسرحياته العديدة. ففي هذه المسرحية تتكرر قصة آدم وحواء بصورة عنيفة قاسية.
وآدم هنا هو ماكبث وحواء هي الليدي ماكبث وماكبث وزوجته كانا يعيشان في هدوء واطمئنان ونعمة واسعة. فقد كان ماكبث قائدا عسكريا لامعا يحالفه النصر في كل معاركه مما جعله موضع الثقة والحب من جانب الملك دنكان. وبعد أن أصبح قريبا من صاحب العرش ومحبوبا منه وموضع ثقته وتكريمه تسلل إليه الشيطان وبذر في داخل نفسه بذرة الشر، وقال له الشيطان: لماذا لا تكون أنت الملك، ولماذا تكون الشخص الثاني أو الثالث في المملكة وأنت قادر بما لك من مواهب عسكرية عالية أن تكون الشخص الأول؟ وجاءت وسوسة الشيطان إلى ماكبث على شكل ساحرات ثلاث قلن له: إنه سوف يصبح ملكا في يوم من الأيام. وقد كانت فكرة الساحرات القادرات على التنبؤ بالمستقبل شائعة بين الناس في عصر شيكسبير. أي في النصف الثاني من القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، حيث عاش شيكسبير بين سنة مولده وهي1564 وسنة وفاته وهي1616.
ونحن الآن بعد أن وصلنا إلى القرن الحادي والعشرين لا نستطيع أن نقتنع بوجود هذا النوع من السحر القادر على أن يكشف ما سوف يحدث في المستقبل.
ولكننا مع ذلك نستطيع من خلال علم النفس وغيره من العلوم الحديثة أن نقول إن الإنسان كثيرا ما يستجيب لأصوات تتردد في داخل نفسه وتحرضه وتفرش له الأرض بالورد، وذلك لكي يحقق لنفسه أهدافا أعلى مما تحقق له بالفعل.
فالمشاعر الداخلية في النفس الإنسانية تلعب دور الساحرات في الماضي، وتخلق خيالات كثيرة وأحلاما زاهية، وتدفع الإنسان إلى القيام بأفعال لا ينبغي أن يقوم بها لو أنه احتكم إلى ضميره وإحساسه بالواجب، ولو استطاع أن يسيطر على مطامعه ويميز تمييزا دقيقا بين ما هو خير وما هو شر، ثم يفرض على نفسه بعد ذلك أن يبتعد عن الشر، لأن الشر لا يحقق السعادة لمن يرتكبونه، بل على العكس من ذلك فإن الشر لا يقود إلا إلى مزيد من الشرور الجديدة.
ونعود إلى مسرحية ماكبث لنجد أن الساحرات أوحين إليه أنه سوف يكون ملكا، وهو ليس بملك وليس وريثا للملك، وإنما هو قائد عسكري صاحب سمعة طيبة، وصاحب تاريخ حافل بالانتصارات الكبيرة، مما رفع من قدره وجعله في مقام الرجل الثالث في بلده لسكوتلندة بعد الملك دنكان وابنه وولي عهده مالكولم.
وهذا المقام الرفيع الذي وصل إليه ماكبث كان كفيلا بأن يمنحه السعادة والطمأنينة ويجعله في حالة تشبه حالة آدم في الجنة قبل أن يرتكب معصيته ويأكل من الشجرة المحرمة عليه. وبعد أن سمع ماكبث ما أنبأته به الساحرات من أنه سوف يصبح ملكا لعبت الفكرة في رأسه ونفسه وخيالاته ولم يعد قادرا على التخلص منها، وعندما داعبه هذا الخاطر الشيطاني لم يجد أمامه سوى وسيلة وحيدة لتحقيق ذلك وهي أن يرتكب الخيانة الكبرى ويقوم باغتيال مليكه دنكان ويعلن نفسه ملكا بدلا منه. وعندما فكر ماكبث بهذه الطريقة أحس بالرعب، لأنه لم يكن معجونا من الشر الخالص، بل كان في شخصيته جانب نبيل يسيطر عليه الضمير والإحساس بالمسئولية والتزام الجانب الصحيح الذي يفرضه عليه الواجب. وبذلك أصبح ماكبث ضحية لصراع كبير داخل نفسه بين الشر والخير. وقد حاول الجانب الطيب النبيل في شخصيته أن يقاوم إغراء الجانب الشيطاني له بارتكاب جريمة قتل الملك وفرض نفسه على العرش، ملكا جديدا بدلا من الملك القتيل. وبعد صراع عنيف انتصر الجانب الشيطاني في نفس ماكبث على الجانب الملائكي النبيل، فاندفع ماكبث إلى ارتكاب جريمته وحقق هدفه باعتلاء العرش، وبذلك يكون ماكبث قد أكل من الشجرة المحرمة عليه، كما فعل آدم في الجنة، وحلت اللعنة على ماكبث بعد الجريمة برغم أنه قد وصل إلى ما كان يحلم به، أي إلى العرش.
وكل من يصل إلى السلطة بالقوة، يظن في أول الأمر أنه اطمأن وتخلص من العقبات التي كانت تقف في طريقه، ولكنه يكتشف في لحظة الاطمئنان أنه يجلس فوق بركان، وأن عليه أن يدافع عن السلطة التي وصل إليها بالغدر والخيانة والاغتيال واستغلال الثقة فيه وليس هناك من دفاع عن السلطة التي تم اغتصابها إلا بالإرهاب، فاغتصاب السلطة لابد أن ينتهي بإقامة حكم إرهابي، لأن المغتصب يشك في كل الذين يحيطون به، ويظن أنهم يتآمرون عليه كما قام هو نفسه بالتآمر لتحقيق هدفه. وكما يقول ماكبث نفسه إنه ليس المهم أن تكون ملكا ولكن المهم أن تكون آمنا بعد الوصول إلى العرش ولم يكن ماكبث آمنا بعد أن أصبح عن طريق الاغتيال ملكا يجلس على عرش الملك القتيل.
وهكذا انتصر نصف الإنسان الشرير في داخل ماكبث على نصف الإنسان الطيب فيه.
أين كانت الزوجة ليدي ماكبث من هذه المأساة الكبيرة؟ إننا بعد أن نقرأ مسرحية شيكسبير أو نشاهدها على المسرح سوف نجد أن ماكبث كان نصف إنسان، لأن النصف الشرير فيه انتصر على النصف الثاني المليء بالخير، أما زوجته ليدي ماكبث فهي تبدو لنا في صورة شيطان كامل. فقد عرفت منذ البداية بنيات زوجها، لأنه صارحها بهذه النيات، وإن كان قد أبدي قلقه واضطرابه من الإقدام على قتل الملك، خاصة أن الملك -في المسرحية- كان طيبا عادلا محبا للخير، ومحبا على وجه الخصوص لماكبث وزوجته. ولكن الليدي ماكبث التقطت فكرة قتل الملك من لسان زوجها وتحمست لها حماسا لا يعوقه شيء على الإطلاق. وعندما أدركت أن زوجها متردد في ارتكاب جريمة اغتيال الملك، فإنها شنت حمله نفسية قوية جدا على زوجها، واستخدمت كل تأثيرها المعنوي الكبير عليه لدفعه إلى ارتكاب جريمته والتخلص من تردده.
بدأت الزوجة ليدي ماكبث بعزف النغمة الأولي وهي أنها تحب زوجها، وأن كل ما تقوله إنما هو بدافع الحب، وبذلك أصبحت كلمة الزوجة مسموعة عند زوجها، لأنه أصبح واقعا تحت تأثير حبها له وثقته في أن هذا الحب لا يمكن أن تصدر عنه إلا نصائح طيبة وصادقة وفيمحلها.
علي أن ماكبث كلما اقترب من تنفيذ جريمته المخلة بالشرف ازداد ارتباكا وأوشك في اللحظة الأخيرة أن يغير رأية ويمتنع عن ارتكاب هذه الجريمة.
وهنا كان على الزوجة أن تعزف أنغاما أخرى أقوى، وأن تسقي زوجها خمرة جديدة يكون تأثيرها مثل السم الذي لا نجاة منه.
وأخذت الليدي ماكبث تعزف الأنغام الأخري لكي تدفع زوجها دفعا إلى ارتكاب الجريمة، لأنها هي نفسها كانت مسكونة بحلم لا يفارقها وهو أن تكون هي أيضا ملكة بعد أن يجلس زوجها على العرش ويستقر فوقه، ولو كان ذلك عن طريق تلويث يديه بالدماء.
وكانت النغمة التالية لنغمة الحب هي النغمة التي تقول إن الأهداف الكبيرة لا يجوز أن تقف في طريقها عقبات صغيرة، مثل القول بأن الوسيلة إلى ذلك يجب أن تكون شريفة ونظيفة. فالوسائل كلها تهون، وهي كلها مقبولة وسليمة مادام هناك هدف كبير.
وهذه النغمة التي استخدمتها ليدي ماكبث هي ما يسمي في العلوم السياسية والإنسانية باسم الماكيا فيللية نسبة إلى الفيلسوف الايطالي الشهير نيقولو ماكيافيلي 1469-1527، فقد قال هذا الفيلسوف في كتابه الأمير: إن الغاية تبرر الوسيلة، ومعني ذلك أن الهدف المحدد الواضح يمكن أن يستخدم أي وسيلة حتى لو كانت هذه الوسيلة ملتوية. وهذا المبدأ هو مبدأ غير أخلاقي، بل هو مبدأ يمكن ترجمته إلى كلمة واحدة هي الانتهازية، فليس من الشرف -في حساب الأخلاق القوية- أن يسعي الإنسان إلى هدف صحيح وكبير بوسائل خسيسة وغير نبيلة. وحتي ماكيافيلي نفسه، والذي ينتسب إليه هذا المبدأ غير الأخلاقي، لم يكن في رأي بعض الباحثين يدعو إلى استخدام هذا المبدأ، ولكنه كان يقدم وصفا لما يحدث في تاريخ السياسة والسياسيين، حيث جرت العادة على تبرير الوسائل الملتوية بأنها ضرورية لتحقيق الأهداف الكبيرة الناجحة، ومن هناك لا يكون ماكيافيلي – حسب هذا الرأي – داعية إلى مبدأ غير أخلاقي، بل هو مجرد مكتشف لوجود هذا المبدأ في تاريخ الإنسان.
وهكذا أخذت ليدي ماكبث تدس في نفس زوجها هذا المبدأ المسموم، أي مبدأ استخدام أي وسيلة حتى لو كانت على شكل جريمة قتل، وذلك لتحقيق هدف كبير هو الوصول الي العرش والجلوس عليه، ليصبح زوجها ملكا وتصبح هي ملكة أيضا.
ولكن هذه النغمة التي استخدمتها ليدي ماكبث لإقناع زوجها بالعمل السريع لقتل الملك لم تكن كافية لكي تدفع الزوج إلى اللحظة الحاسمة التي يتخلص فيها من التردد ويقوم بارتكاب الجريمة.
وهنا عزفت الزوجة نغمتها الأخيرة، والتي بعدها اندفع الزوج إلى ارتكاب الجريمة وهذه النغمة الشريرة هي قولها لزوجها إنه لايكون رجلا بالمعني الكامل للرجولة إذا أحس بالضعف واستسلم للتردد فمثل هذه الصفات الناعمة اللينة لاتليق بالرجولة الحقيقية. وهذه النغمة هي التي قضت على الجانب الطيب في شخصية ماكبث، فكيف يقبل أن تتهمه زوجته بالنقص في رجولته؟ لابد أن يثبت لها أنه رجل كامل الرجولة، وقد صورت له الزوجة أن الدليل المطلوب لاثبات رجولته هو ارتكاب جريمته دون تراجع عنها أو تردد فيها.
وهكذا انتصرت الزوجة التي ركبها الشيطان ولم يترك في نفسها شيئا من النبل والخير، بل كان العفريت الذي ركبها هو تحقيق هدفها بأن تصبح ملكة، ولو جاء ذلك عن طريق قتل الملك الشرعي، أثناء زيارته لها ولزوجها في قصرهما الخاص، وأثناء نومه آمنا في هذه الزيارة المفجعة.
ويقوم ماكبث بارتكاب الجريمة، بينما زوجته تقوم بتقديم خمر قوية فيها منوم ثقيل للحارسين المصاحبين للملك، وبعد الانتهاء من الجريمة التي ارتكبها الزوج يتم تلويث خناجر الحارسين بدماء الملك، ويتم تلويث أيديهم وثيابهم بهذه الدماء، ثم يقوم ماكبث بقتلهما وهما غارقان في النوم تحت تأثير الخمر والتخدير، ويدعي ماكبث بعد ذلك أنه قتلهما انتقاما للملك، فهما المتهمان بقتله، والدليل على ذلك آثار الدماء على الخناجر والأيدي والثياب.
الزوجة هنا دخلت إلى حياة زوجها في لحظة حاسمة هي لحظة الصراع في نفسه بين الخير والشر، وبدلا من أن تكون الزوجة نورا يضيء الظلام كانت نارا تشعل الحقد وتحض على الجريمة وإسالة الدماء. واستطاعت الزوجة بما لها من تأثير على زوجها أن تنزع من قلبه وضميره كل مايدعوه إلى التراجع والتخلص من فكرة التآمر، فاندفع إلى الشر وارتكب جريمته، وخان الملك الذي وثق فيه وأحبه.
وبعد ارتكاب الجريمة حلت اللعنة. فخرج ماكبث وزوجته من النعمة الهادئة الراقية التي كانا يعيشان فيها إلى جحيم من الحياة المليئة بالقلق والتوتر.
اندفع ماكبث إلى ارتكاب المزيد من الجرائم لأن الخوف سيطر عليه من أن يكتشف جريمته أحد، وأخذ يظن أن كل الذين حوله سوف يعرفون الحقيقة، وأنهم يتشككون في موقفه ويشعرون في داخلهم انه هو الذي ارتكب الجريمة. وهكذا دفعه القتل إلى مزيد من القتل، أي أنه عندما انتزع السلطة وجلس على العرش فإنه اندفع إلى حكم الإرهاب وأعمل سيفه في كل الذين يشك فيهم، وكان يشك في الجميع على التقريب.
وكان العقاب الذي حل بشخصية ماكبث أليما، وبدأ هذا العقاب من اتساع شكوكه في الآخرين حتى لو كانت هذه الشكوك بغير دليل، فالشكوك في حد ذاتها مدمرة لأي هدوء واطمئنان داخل النفس، وهذه الشكوك قادت ماكبث إلى الخوض في مزيد من الدماء، وكلما انتهي من سفك دم، بدأ في سفك دم جديد. على أن المأساة لم تتوقف عند حدود الشك وسفك الدماء، فقد بدأ ماكبث يري خيالات قوية امامه تداعبه وتعبث به وتقول له إن يديه ملوثتان بالدماء وإن مياه البحار لو اجتمعت كلها فإنها لاتستطيع أن تزيل آثار الدماء من هذين اليدين. وظل ماكبث يهذي بالإشارة إلى يديه الملوثتين وأصبح في حالة هي الجنون أو مايشبه الجنون. حتى انتهت الأمور في آخر المكان إلى اجتماع أعداء ماكبث لمحاربته، وقد حاربوه بالفعل وانتصروا عليه وقتلوه، وفي اللحظات الأخيرة التي اكتشف فيها عبث جريمته قال كلماته التي أصبحت مشهورة في أدب العالم كله وهي: إن الحياة ليست سوي حكاية يرويها مجنون، وهي حكاية مليئة بالصخب والعنف، وليس لها معني ولاقيمة.
وكان أشد عقاب وقع على ماكبث وزوجته الليدي ماكبث هو حرمانهما التام من النوم، فمسرحية ماكبث يمكن أن يقال عنها إنها مسرحية العقاب بالحرمان من النوم الذي حل بالقاتل وزوجته التي شجعته على الجريمة،وكل أحداث المسرحية تدور في الليل وقبل طلوع الفجر، ويقول الناقد الإنجليزي يان كوت في كتابه المهم شيكسبير معاصرا ترجمة جبرا إبراهيم جبرا: إن الليل في مسرحية ماكبث قد خلا من النوم، وليس هناك مسرحية من مسرحيات شيكسبير ورد فيها حديث عن النوم بقدر ما في مسرحية ماكبث من حديث عنه. ماكبث قتل النوم، ولن يستطيع أن ينام بعد ارتكاب جريمته.
في اسكوتلندة كلها حيث تدور أحداث المسرحية لم يعد أحد يستطيع النوم. فلا نوم هناك بل الموجود والمتاح هو الكوابيس فقط.
والعقاب بالحرمان التام من النوم هو عقاب طبيعي أقسي من أي عقاب آخر، فكل المخطئين والمجرمين والمتسلطين في هذا العالم لاينامون، وإنما يخضعون لكوابيس قاسية تحرمهم من هذه النعمة الطبيعية، وبهذا الحرمان من النوم الطبيعي تختل حياتهم وتنهار أعصابهم ويشعرون أن الدنيا قد تحولت إلى جحيم.
وقد انتهت حياة ليدي ماكبث بأن أصيبت بمرض المشي أثناء النوم، وكانت في مشيها وهي نائمة، تحاول أن تدافع عن نفسها، وكانت تحاول أيضا أن تغسل يديها باستمرار دون جدوي، فكلما غسلت يديها شعرت أنهما لاتزالان ملوثتين، وكانت تنام وعيناها مفتوحتان، وكانت لاتنام إلا وفي جانبها مصباح شديد الضوء، لأنها كانت تعاني من هيستيريا الخوف، وكانت تخاطب أشباحا لايراها أحد سواها، وتدخل في صراع مع هذه الأشباح. وظلت تعاني من مرض المشي أثناء النوم ومرض الإحساس المستمر بأن يديها ملوثتان، مع الحديث المستمر وهي نائمة عن أنها لم ترتكب جريمة، وإنما سعت إلى أن تكون ملكة، وأصبحت ملكة، فلماذا ينكر الناس عليها حقها في ذلك؟
لقد وصلت ليدي ماكبث إلى حد الجنون وعندما استولي عليها مرض المشي أثناء النوم، والاندفاع في أحاديث مضطربة خلال المشي وهي نائمة، قال الأطباء إن مرضها لا شفاء منه، ولابد أن ينتهي بها هذا المرض الخطير إلى الموت وهو موت يشبه الانتحار، لأنه تعبير عن رغبة دفينة في التخلص من الحياة.
وهذا ماحدث، فقد سقطت ليدي ماكبث ميتة بعد فترة قليلة من حصولها على لقب الملكة الذي كانت تحلم به. ولقد قال بعض الباحثين: إن من بين الأسباب التي أشعلت الطموح الجنوني في نفس ليدي ماكبث هو أنها لم تنجب أطفالا ولم تشعر شعورا حقيقيا بالأمومة، فلو أنها كان لها أطفال فربما ساعدتها الأمومة على التخلص من جنونها بالسلطة وبأن تصبح ملكة بعيدا عن طريق الغدر والدم والخيانة.
ومسرحية ماكبث تقدم نموذجا حيا باقيا في كل العصور للعقاب الذي يحل بالنفس الآثمة من داخل هذه النفس، قبل أن يحل بها العقاب من الخارج. ويكفي ما تكشفه هذه المسرحية الرائعة من آلام الحرمان من النوم والوقوع تحت سيطرة كوابيس مرعبة تطارد الإنسان وتفقده أي إحساس بالأمان، فالليدي ماكبث لم يعاقبها أحد، وإنما عاقبت نفسها بنفسها، وكانت تسيطر على تصرفاتها في ضوء النهار، ولكنها كانت تفقد السيطرة على نفسها تماما عندما يحل الليل ويحين أوان النوم الهادئ الذي بدونه لاتستقيم حياة الإنسان. هنا كانت ليدي ماكبث تجد نفسها فريسة للكوابيس والأشباح التي لاتستطيع معها أن تغمض عينيها لتنام.
وهكذا فإن ارتكاب جريمة واحدة لابد أن يجر المجرم إلى جرائم كثيرة أخري طلبا للحماية والأمان، والشر لايولد عنه إلا الشر. ولايمكن إقامة السعادة في هذه الدنيا على ارتكاب الجرائم والآثام. والغايات النبيلة لابد لها من وسائل نبيلة أيضا، وبغير ذلك، يخرج الإنسان من نعمة الهدوء والطمأنينة إلى جحيم الشك والقلق، ولن يجدي في مثل هذا الجحيم أي سلطان يملكه الإنسان حتى لو كان أعلي سلطان في الأرض. فالسلطان الذي يوحي به الشيطان ويشارك فيه لابد أن ينتهي نهاية مؤلمة لايحبها أحد لنفسه.
بقلم: رجاء النقاش