الحمد لله رب العالمين والصلاة السلام على النبي الأمين، سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه الغر الميامين، ثم أما بعد:
فإن الدنيا خضرة حلوة، ومليئة بالفتن والمغريات والزينة، والنفوس جبلت على حب الدنيا والرغبة في تحصيل ملذاتها ومتاعها، وكل المتاعب والهموم تأتي من ذلك التعلق، والحرص عليه، فيظل الإنسان يتقلب بين رغبة لا يستطيع تحقيقها، ونعيم لا يمكنه الوصول إليه، فيظل في تعلقه وحسراته، وكلما تأصل بداخله الشعور بالحرمان كلما ازداد تشبثا بالدنيا.
وأصعب ما في تلك القضية أن التعلق دائما يكون بأشياء زائلة ومتع فانية ونعيم مؤقت، لا يدوم أبدا، كيف لا والدنيا بحالها إلى زوال وفناء محقق، لا ريب فيه!
وهنا سيكون حديثنا عن علاج لمرض التعلق والرغبة المحمومة في تحصيل متاع الدنيا وشهواتها وملذاتها، والانشغال بكل هذا عن الآخرة دار البقاء والنعيم المقيم، وهذا العلاج عرفه القدامى من الصحابة والتابعين والعباد، فأراحوا القلوب والأرواح من وجع التعلق ومرارة الفقد، والعلاج هو الزهد، بمعناه المنطقي المجرد من المبالغة والتكلف والمزايدة، وحول فضيلة الزهد ومعناها وثمارها الطيبة سيدور حديثنا في هذا المقام.
مفهوم الزهد وجوهره
الزهد لغة يعني الإعراض، ويراد به الإعراض عن الدنيا وملذاتها ونعيمها الفاني، وترك التعلق بها والرضا بما قسم منها، بلا جزع أو سخط أو تشبث، وحاصل حقيقة الزهد أنه ترك التعلق والارتباط والتمسك نفسيا بالأشياء، ولا يعني بالضرورة ترك الاستمتاع بما هو متاح وجائز شرعا.
وقيل فيما قيل عن معنى الزهد أنه ترك الدنيا بحلالها وحرامها، خوفا من الحساب أو العقاب، وقيل أيضا أنه احتقار الدنيا وملذاتها، وهوانها في نظر العبد، ويشمل الزهد ترك ما لا ينتفع به العبد يوم لقاء ربه، فيزهد في فضول القول وفعل مالا جدوى منه، ويترك المبالغة فيما هو مباح من أنواع المتع والشهوات.
ومن أقرب التعريفات وأوضحها أن الزهد هو عدم الفرح بإقبال الدنيا أو الاغترار بذلك، وعدم ترك القلب تنهشه الحسرات حين تعرض الدنيا عن الإنسان وتعطيه ظهرها، فالزهد أن تقدر الدنيا حق قدرها.
زهد الصحابة
من أروع أمثلة الزهد في ملذات الدنيا ومتعها الفانية، زهد الصحابة المطهرين، فلم تكن الدنيا ومتاعها تشغلهم عن الآخرة، و لم يكن تعلقهم بها ليمنعهم من الجهاد في سبيل الله بأنفسهم وأرواحهم وأموالهم، فهم زاهدون فيها إلى الحد الذي يجعلهم قائمين على حدود الله، مقبلين بقلوبهم وأرواحهم على الجهاد لا يخافون الموت ولا يؤلمهم فراق هذه الحياة بكل زخرفها.
الزهد في الإسلام
الإسلام يحث أتباعه على الزهد في الدنيا ونعيمها وعدم التعلق بها، ويدعوهم للانشغال بالآخرة وتعميرها، باعتدال، ومن الأثار التي تناولت معنى الزهد وبينته وحضت عليه قول النبي –صلى الله عليه وسلم- لسائل جاء يسئل عن شيء يحببه إلى الله وإلى الناس فأجابه: (ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ)، ومنه قوله –صلى الله عليه وسلم-: (إن الزاهد في الدنيا يريح قلبه في الدنيا والآخرة والراغب في الدنيا يتعب قلبه في الدنيا والآخرة)، وفي هذا بيان لأهم المنافع التي يحصلها الزاهد وأهم المكاسب التي يجنيها.
ثمار الزهد
الزهد فضيلة تنعكس أثارها الطيبة على كل أفعال العبد وأقواله وحياته، وله ثمار رائعة يجنيها من زهده في الدنيا قبل الآخرة ومن أهمها ما يلي:
في الزهد راحة للقلب من الحسرات على ما فات أو الانشغال بما لم يأت، وفيه صفاء الروح وعدم تعكيرها بمرارة التعلق، فإن للتعلق مرارة تعلو إحساس كل إنسان جربه وحرم نيل ما تعلق به، أيا كان هذا المتعلق به.
الزهد يجعل القلب مقبلا على الله، منشغلا بتعمير الآخرة أكثر من تعمير الدنيا.
الزهد يورث الجود والكرم، إذ كيف يبخل الإنسان بما يزهد فيه؟ فيحصل بذلك خير الصدقة والعطاء والإنفاق وما أعظمه؟
الزهد في الحياة ومتعها الزائلة، ويعلي همة الإنسان، فلا يستثقل طاعة ولا يخيفه جهاد في سبيل الله، ولا يثنيه عن فعل الخير شيء.
الزهد يشغل القلوب عن كل ما يضرها ويكدر صفوها من الانشغال بالناس و أمورهم وكلامهم وغيره.
ومن أروع ما قيل في وصف الزاهد، ما ورد عن ابن القيم- رحمه الله- إذ يقول: ( الزاهد لله وبالله ومع الله وما أعظم أنسه بالله وفرحه به وطمأنينته وسكونه إليه).