قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر غير منكر»، وقال أيضا: «ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والنهي على الصراط المستقيم، والصراط المستقيم أقرب الطرق وهو الموصل إلى حصول القصد، ولا بد في ذلك من الرفق كما قال النبي ﷺ: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه» ، ونقل رحمه الله عن بعض السلف أنه قال: «لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر به، فقيها فيما ينهى عنه، رفيقا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه» «، وقال رحمه الله: «فإن لم يكن عالما لم يكن له أن يقفو ما ليس له به علم، وإن كان عالما ولم يكن رفيقا كان كالطبيب الذي لا رفق فيه فيغلظ على المريض فلا يقبل منه، وكالمؤدب الغليظ الذي لا يقبل منه الولد» اهـ.
والحلم والأناة من خلق الأنبياء والمرسلين قال ﷻ: {إن إبراهيم لحليم أواه منيب}، وقال ﷻ لموسى وهارون عليهما السلام: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} قال ابن كثير: «هذه الآية فيها عبرة عظيمة وهي أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين…»، إلى أن قال: «والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين سهل رفيق ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع، كما قال ﷻ: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}».
وقال ﷻ عن رسوله الكريم: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}، قال قتادة: «إي والله طهره الله من الفظاظة والغلظة، وجعله قريبا رحيما رؤوفا بالمؤمنين»اهـ
ومن فضل الرفق وعظمته أنه من أسماء الله ﷻ وصفاته، وقد ظهر رفقه في خلقه وأمره، قال ابن سعدي: «ومن أسمائه ﷻ (الرفيق) في أفعاله وشرعه، ومن تأمل ما احتوى عليه شرعه من الرفق وشرع الأحكام شيئا بعد شيء، وجريانها على وجه السداد واليسر ومناسبة العباد، وما في خلقه من الحكمة، إذ خلق الخلق أطوارا ونقلهم من حال إلى أخرى بحكم وأسرار لا تحيط بها العقول، وهو ﷻ يحب من عباده أهل الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.
والرفق من العبد لا ينافي الحزم، فيكون رفيقا في أموره متأنيا، ومع ذلك لا يفوت الفرص إذا سنحت، ولا يهملها إذا عرضت» اهـ.
وقال د. سيد نوح رحمه الله وهو يعدد صفات وأخلاق المتصدر للدعوة: «الرفق أو اللين، ومعناه رقة الطبع ودماثة الخلق ولين الجانب، فلا فظاظة ولا خشونة ولا عنف، قال ﷻ في وصيته لموسى وهارون لما أرسلهما إلى فرعون: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}، ثم شرح هذا القول اللين فقال: {فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى}.
وقال الله ﷻ عن فضله على نبيه محمد ﷺ بما كفل له من النجاح في دعوته: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}، وقد حفلت دواوين الحديث والسنة والسيرة النبوية بالنماذج الحية الناطقة برفقه ولينه ﷺ في دعوته، الأمر الذي أدى إلى فتح مغاليق القلوب، وكسب ثقة الناس ومودتهم، أو على الأقل السلامة من شرهم وأذاهم».
ولا يخفى على ذي بصيرة ضرورة الرفق واللين والرحمة للداعي، لأن الداعي بمثابة الطبيب الذي يرفق بالمريض لأجل مصلحته، وبمنزلة الوالد الذي يتلطف بالطفل من أجل منفعته، قال د. عبد الكريم زيدان: «الرحمة تهوّن على الداعي ما يلقاه من أصحاب الغفلة والجهالة؛ لأنه ينظر إليهم من مستوى عال رفيع أوصله إليه إيمانه وصلته بربه؛ ولذا فهو ينظر إليهم كصغار يعبثون، والشأن في الصغار والأطفال العبث والجهل وعدم إدراك ما ينفعهم؛ ولذلك لا يعجب الداعي من مقابلة نصحه لهم بالإعراض والصدود والأذى، كما يفعل الطفل إذا نصحته أو أبعدته مثلا عن مس النار أو الشيء المؤذي، فإنه يصيح ويغضب وربما آذاك، إن الداعي لا يعجب من صدودهم ولذلك فهو يعيد الكرة معهم ويتحمل أذاهم ويقول: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» اهـ.
وقد جاء الكثير من الأحاديث والآثار في الحث على الرفق واللين منها ما روته عائشة عن النبي ﷺ قال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» أخرجه مسلم.
وعنها أن النبي ﷺ قال: «يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه» أخرجه مسلم.
وعن جرير عن النبي ﷺ قال: «من يحرم الرفق يحرم الخير» أخرجه مسلم.
واقرأ هنا: الرفق خير كله
قال النووي: «في هذه الأحاديث فضل الرفق والحث على التخلق به، وذم العنف، والرفق سبب كل خير، ومعنى «يعطي على الرفق»: أي يثيب عليه ما لا يثيب على غيره، وقال القاضي: معناه: يتأتى به من الأغراض ويسهل عليه من المطالب ما لا يتأتى لغيره» اهـ.
وعن أبي الدرداء عن النبي ﷺ قال: «من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق حرم حظه من الخير» أخرجه الترمذي.
وفي (المسند) مرفوعا: «يا عائشة، أرفقي؛ فإن الله إذا أراد بأهل بيت خيرا دلهم على باب الرفق « وفي لفظ: «إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق».
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: «ألا أخبركم بمن يحرم على النار، وبمن تحرم عليه النار، كل قريب هين سهل» أخرجه الترمذي.
وعن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله ﷺ قال ذات يوم في خطبته: «وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال» أخرجه مسلم.
وعن عائشة قالت: «سمعت رسول الله ﷺ يقول في بيتي هذا: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشَقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به» أخرجه مسلم، قال النووي: «هذا من أبلغ الزواجر عن المشقة على الناس، وأعظم الحث على الرفق بهم، وقد تظاهرت الأحاديث بهذا المعنى»اهـ.
وعن عروة بن الزبير قال: «مكتوب في الحكمة: «الرفق رأس الحكمة»، وعن قيس بن أبي حازم قال: «كان يقال: من يعط الرفق في الدنيا نفعه في الآخرة».
وتجِد هنا كذلك: الحلم سيد الأخلاق
وقال بعضهم: «ما أحسن الإيمان يزينه العلم، وما أحسن العلم يزينه العمل، وما أحسن العمل يزينه الرفق، وما أضيف شيء إلى شيء مثل حلم إلى علم».
ولا شك أن لفقد الرفق في الدعوة آثارا سلبية تنعكس على المدعوين وعلى الدعوة:
قال د. عبد الكريم زيدان: «الداعي المحروم من الرحمة الغليظ القلب لا ينجح في عمله ولا يقبل الناس عليه وإن كان ما يقوله حقا وصدقا، هذه هي طبيعة الناس ينفرون من الغليظ الخشن القاسي، ولا يقبلون قوله؛ لأن قبول قول الناصح يستلزم إقبال قلب المنصوح إليه، ولا يحصل هذا الإقبال مع خشونة الطبع وغلظة القلب، قال ﷻ: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}، فإذا كان هذا يمكن أن يقع بالنسبة إلى رسول الله ﷺ لو حصل ما ذكرته الآية الكريمة، والرسول لا ينطق إلا بالحق ومؤيد بالحق، فكيف يمكن تصور تخلف الانفضاض عن الداعي إذا كان فظا غليظ القلب؟!
فليتق ربهم الدعاة إلى الله، وليتكلفوا الرحمة والرفق إن لم يكونوا رحماء حتى يكتسبوها ويألفوها، ولا يكونوا منفرين عن الإسلام بسوء أخلاقهم وغلظة قلوبهم وخشونة طبعهم وبذاء كلامهم، فإن عجزوا عن اكتساب الرحمة وحمل نفوسهم على أخلاق الإسلام، فمن الخير لهم وللدعوة ترك الدعوة والانصراف إلى علاج نفوسهم».
قال الشيخ ابن عثيمين: «إن علينا أن نستعمل في دعوتنا إلى الله ﷻ الرفق واللين ما أمكن ذلك؛ لأن النبي ﷺ قال: «يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه» أخرجه مسلم.
ومن تتبع هدي النبي ﷺ وجده ﷺ رفيقا بالأمة، فالذي أدعو إخواني إليه أن يسلكوا هذا السبيل في الدعوة إلى الله وإنكار المنكر؛ فيحصل لهم بالرفق ما لا يحصل بالعنف».اهـ.
ولا يخفى أن الرفق في الدعوة لا يعني التنازل عن الثوابت والتهاون في الواجبات، وإنما يعني تقديم الحق في صورة مقبولة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هيئة مناسبة تحمل المدعو على الامتثال وقبول الحق والانقياد له، وسر ذلك أن حب الخير للغير والخوف عليهم والشفقة بهم إذا ملأت قلب الداعي إلى الله ظهر أثر ذلك في أقواله وأفعاله كما قال ﷻ لرسوله ﷺ: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} وقال أيضا: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} أي مهلك نفسك غما وحزنا عليهم، فكان ﷺ يفرح ويسر باهتداء المؤمنين، ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين شفقة منه ﷺ عليهم ورحمة بهم، فعلى الدعاة التأسي برسول الله ﷺ في حبه الهداية للخلق والخوف عليهم من سوء العاقبة وخطر الآخرة.
بقلم: د. وليد خالد الربيع