ما من إنسان على وجه هذه الأرض إلا وينشد الكمال في الرزق، ويتمنى لو امتلك ملئ الأرض ذهبا وفضة، ويتمنى لو امتلك بين يديه مقادير الخلق وأزِمًة الأمور، ليجلب لنفسه كل ما تشتهي من المتع والطيبات وليدفع عنها كل ما يمكن أن يعكر صفوها من النقائص أو المنغصات، وليقي نفسه ومن يحب من تقلبات الحياة وغدراتها وصفعاتها، وليحصن قلبه وقلوب من يهمهم أمره من وجع الفراق وانكسارات الفقد ولوعته، ولكن……!
كم مرة تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن! وكم يفجع القلب بفقد حبيب أو ضياع حلم أو تحطم أمل؟ وكم مرة تدير الأقدار دفة الحياة على خلاف ما يهوى القلب أو يخطط العقل.
فهذه هي الحياة وهذا طبعها وديدنها، وتلك حكمة الله وإرادته التي لا تخضع لسلطة أحد ولا تتبع رغبة أحد، فالمقادير بيد الله يدبرها ويصرفها كيف يشاء وكل شيء عنده بقدر، وهنا سوف نخوض محاولة لتدريب أنفسنا على معنى الرضا وكيف نتعلمه، وكيف يكون التعامل مع مقادير الحياة وصروفها بما يضمن لنا سعادة الدنيا وحسن جزاء الآخرة.
معنى الرضا
أما عن مفهوم الرضا ومعناه فهو تقبل كل ما يقدره لنا الله مما نحب أو لا نحب، بلا تذمر ولا شكوى أو حسرة، وأعلى مقامات الرضا عن الله وعن صروف الحياة أن يصل المرأة إلى السعادة التامة والعامة، في كل أحواله وأن يكون ثابت اليقين غير مزعزع ولا مبتور، يرى رحمة الله ويستشعرها ويأنس بها مهما بدا ظاهر الأمر قاسيا أو صادما.
وضده السخط والحنق من أقدار الله والجزع والشكوى عند أي حادث أو تغير نعمة، وقد حذر القرآن المسلم من أن يكن ضعيف اليقين مذبذب الإيمان يذهب ثباته وإيمانه هباء مع أول نازلة تحل به، أو مصيبة تقع له وقد قال الله في هذا الصنف: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11).
ثمرة الرضا
أما ثمار الرضا عن الله وبالله فهي عظيمة وفوائده جمة، ومنها أن المؤمن الذي يرضى عن الله في كل حاله ومئاله، ويثق برحمته، ويرجو فضله، فقد حيزت له سعادة الدنيا وجنة الآخرة.
الرضا بقضاء الله يهون على المرء حجم المشاكل التي تحيط به، ويمنحه حالة من الهدوء والطمأنينة التي يستطيع معها أن يتفقد موطن قدمه ويدبر أمره ويجد حلولا لأزماته، كما أن السخط والحنق مع العجز عن تغيير ما كتب لنا من الأقدار يورث الهم والحزن ويضعف البدن ويؤثر بصورة سلبية جدا على الصحة النفسية والجسدية على حد سواء.
ومن عظيم الأثر للرضى بالقضاء والقدر أن العبد يرجوا معه الثواب والعوض من الله، فيجد العبد من ربه العون على تحمل الأقدار وسكينة النفس وهداها، وقد بشر بذلك رب العزة إذ يقول في محكم التنزيل: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم).
تحصيل الأجر من الله عز وجل، وقلة الهم وراحة البال، والغنى بكل ما يحمله من معنى.
كيف ندرب أنفسنا على الرضا بقضاء الله وقدره؟
اننا نحتاج في تدريب أنفسنا على الرضا بكل ما يسوقه الله لنا من أقدار لأمر غاية في الأهمية وهو أن نصحح مفاهيمنا وننظر للحياة وأحداثها بعقلانية وموضوعية، لندرك حقيقة كونية ثابتة وهي أن الأقدار لا مساومة فيها ولا تغيير، فهي قدرت قبل الخلق نفسه، وهذا ما يفهم من قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: “كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ”[2].
الأمر الآخر أن نكون على وعي كاف بأن الاعتراض بما لا يليق من الأفعال والكلمات، والسخط على ما يحدث لنا، والحنق واستمرار الرفض كلها أمور لا تجدي إطلاقا، ولا تعيد مفقودا ولا تبدل أمرا مكتوبا، ومن ثم يجب أن لا نترك قلوبنا لهذا التيه وأن نوقظ أنفسنا ونتعلم أنه فعلا لا جدوى من البكاء على اللبن المسكوب، فلنكف عن البكاء، وننهض في كل الأحوال لنتفقد مواقع أقدامنا ونكمل رحلتنا.
أن يرسخ لدينا يقين قوي بأن الله ما قدر علينا أمرا إلا لحكمة يعلمها وحده، وأن منحه ومنعه عز وجل خير كله، وأن عقولنا مهما بلغت من العلم والمعرفة فهي قاصرة وستظل قاصرة عن إدراك حكمة الله من أقداره.