الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رمز الكمال وكمال الوجود، محمد وعلى أله وصحبه الأخيار، صلاة وسلاما تامين دائمين ما تعاقب الليل والنهار، ثم أما بعد: فإن الله خلق الناس متفاوتين في أعمالهم ومتباينين في درجة تقواهم وصلاحهم، فمنهم من يعمل الصالحات بإخلاص وإتقان، فيرجو بذلك رحمة الله، ومنهم من يعمل السيئات عامداً متعمداً، لا ترجعه توبةٌ ولا تؤثر فيه عظةٌ، فهو في خوف وترقب ينتظر الجزاء من جنس العمل، وينتظر العقاب الأليم – إلا أن يتغمده الله برحمته- ومنهم من خلط عملا صالحا بأخر سيئا، فأمره موكول إلى بارئه، ومنهم صنف رابع يعمل الصالحات وقد يفني عمره في عمل الخير والقربات ولكن ضل سعيهم وحبط ما كانوا يعملون، فلا عمل الخير ينفعهم ولا القربات تنقذهم يوم لا ينفع مال ولا بنون، وهنا سيكون الحديث حول هذا الصنف من الناس، والتعرف على ما يبطل العمل الصالح ويحبطه، والانتباه والحذر أن نكون منهم، والعياذ بالله، ونسأل الله أن ينفعنا وينفع قارئنا الكريم بكل ما نكتب، فالله هو ولي ذلك والقادر عليه.
من هم الذين ضل سعيهم؟
يقول الله عز جل في كتابه الكريم: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا).
وقال العلماء في تفسير تلك الآية الكريمة إن الذين ضل سعيهم هم من أفنوا أعمارهم في أعمال تخالف ما أمر الله به، أو تخلو من الإخلاص أو الموافقة لما جاء به الشارع الحكيم، وهم على ذلك قائمون مواصلون، يظنون أن أعمالهم ستنفعهم وأنها ستنجيهم من العذاب الأليم، وهذا قمة الضلال إن يسير المرء على الباطل معتقداً أنه على الحق، فمن يعلم أنه على الباطل يرجى توقفه ومراجعة نفسه أما من يظن أنه على الحق فأنى له أن ينتبه أو يعرف أنه مخطئ؟
ومن ضمن صور الضلال أن يحبط المرء عمله ويضيع جهده بفعل ذنب يمنع عمله من القبول ويحرمه من وصول الأجر إليه ومن تلك الذنوب المحبطة للعمل والمضيعة للأجر الرياء الذي يخالط نية العبد وهو مقبلٌ على العمل الصالح.
والرياء هو عمل الخير ابتغاء الثواب من الله، والسمعة أو الصيت أو الذكر الحسن عند الناس، وفيه درجة من الشرك، وقد أطلق عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وصف الشرك الخفي، إذ أن العبد لا يعمل العمل خالصا لوجه الله، بل يشرك معه غيره من الخلق، وقد يسير المرء على هذا الطريق طوال حياته غير مدرك لخطورة ما يفعل متوهما أن الله يتقبل منه أعماله، وأنه يعد له الأجر العظيم على تلك الأعمال وإذا به يوم القيامة لا يحصد من الأجر إلا ما أراده في الدنيا من الصيت والسمعة، فيلقى في النار ومما يدل عل ذلك ما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه – حيث قيل له : حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ :سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ! ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ! وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ! فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ! وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ! قَالَ كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ! فَقَدْ قِيلَ! ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ).
ولا يخف علينا أن هذا الحديث أوضح خطورة الرياء وبين نتائجه على أعمال العبد بما يجعل أي انسان فطن ينتبه إلى نيته، ويستعيذ من الرياء وشره، ويتخل عن مآربه من الناس من مدح ثناء ونحوه، فإن كل ذلك لا ينفع المسلم البتة، ولا يحصل من ورائه إلا الحسرة والندم.