اللهم صل على سيدنا محمد في الأولين، وصل على سيدنا محمد في الآخرين، وصل عليه في كل وقت وحين وعلى صحبه الطيبين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد..
فنحن في زمن كثرت فيه الفتن وانعدمت فيه الرقابة وأمن العقاب من الأهل أو أولي الأمر، وأصبح الواحد منا يخلو بعالمه الخاص الذي يمتلئ بالمغريات والضلالات، وليس ثمة قوة خارجية لها صلاحية منعنا أو حتى عقابنا، ومن ثم نحتاج أن نرجع إلى وازع داخلي يدفعنا إلى الفضيلة ويباعد بننا وبين الرزيلة، وازع يلازمنا حتى في خلواتنا ووحدتنا، وأفضل وازع هو يقظة الضمير والحياء.
فالحياء من شيم الكرام والنبلاء والأعزاء، الذين يترفعون عن اتيان النقائص أو فعل ما يعابون به أو يذمون به في وجههم أو من وراء ظهورهم، فالكريم الرفيع المقام يستحي أن يذكر في المجالس بالسوء أو يتردد اسمه بالشر، مهما يكلفه الأمر من عنت ومشقة.
وفي هذا المقام سوف نتطرق إلى ذكر خلق الحياء وأهميته في شريعتنا الإسلامية، وكيف حثت عليه ودعت إليه مع بيان فضله وثمراته على أصحابه.
خلق الحياء في ميزان الشريعة الإسلامية
خلق الحياء هو ذلك الشعور الداخلي الذ يمنع المرء من اقتراف ما يعاب به عند الناس، والحياء هو معنى خاص من معاني الخجل فبينما الخجل هو عبارة عن الشعور بالحياء عامة، وهي حالة نفسية غير مرتبطة باقتراف الإنسان لشيء محرم أو عدمه، ويعتبر ضعف في الشخصية، ومؤشر يدل على جود خلل في بناء تلك الشخصية أو نمط التربية، وليس هذا المقصود في هذا المقام.
وحين نزن ذلك الخلق بميزان الشريعة نجد أنه من أثقل الأخلاق في الميزان، شريطة أن يكون الحياء من الله في المقام الأول، فالإنسان الذي يستحي أن يراه أحد الخلق على معصية أو في وضع يكرهه فمن باب أولى أن يستحي من أن يراه الله على معصية، أو يطلع عليه فيجده يقارف ذنبا، وهذا النوع من الحياء هو تحديدا ما تعظمه الشريعة وتحث عليه.
دعوة الشريعة الإسلامية إلى خلق الحياء
دعت الشريعة إلى كل خلق باعث على الخير منفر من فعل المحرمات، ولا شك أن الحياء تاج تلك الأخلاق، ولو لم يكن في الحياء خير غير أنه صفة من صفات الله عز وجل لكفى به خيرا، فقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم- عن رب العزة أنه حيي كريم، فقال: (إن ربكم حيي كريم، يستحيي من عبده إذا بسط يديه أن يردهما صفرا خائبتين)، فإذا كان الله جل وعلا الغني عن العباد الذي لا يضره مكرهم ولا ينفعه خيرهم، حيي كريم يستحيي أن يرد سائله صفرا، فكيف بنا نحن! نتقلب في نعمه، فنستظل بسماءه ونأكل من رزقه، ونستتر بستره، ولا نتورع عن معصيته والخروج عن أوامره والوقوع في نواهيه، فلعمري هذا في الفجور عجب!!
ومن حض النبي –صلى الله عليه وسلم- على خلق الحياء، وصفه للحياء بأنه خير كله، وقلنا سابقا أن المقصود هنا هو الحياء الشرعي الذي يمنع صاحبه من المعاصي، وليس الخجل الذي يمنع صاحبه من قول الحق أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، فهذا لا يقره الشرع ولا يحمده.
كيف نكتسب ذلك الخلق الكريم؟ وما ثمرة ذلك؟
إن المؤمن يمكنه أن يوطن نفسه على خلق الحياء ليكن بينه وبين اتيان المعاصي والذنوب حجاب، وذلك بأن يستشعر عظمة الله عز وجل ويراقبه في كل ما يصدر عنه، ويستشعر فكرة أن الله مطلع عليه، ويعيها جيدا، ولو أن أحدنا شك أن شخصا ما يتلصص عليه أو يطلع عليه لامتنع فورا عن المعصية، وذاب خجلا لمجرد وقوع هذا الشك في نفسه! فما بالنا بنظر الله إلينا، ذلك الأمر اليقيني الذي لا ريب فيه، فالحياء من الله من باب أولى، وفي هذا المعنى يعاتب الله عباده الذين يستترون من الخلق ويعصون الله، ولا يستشعرن الحياء منه ولا الخوف من غضبه، فيقول: (عبدى إن كنت تظن أنى لا أراك فذاك شك في إيمانك، وإن كنت تظن أنى أراك فلم جعلتني أهـون الناظرين اليك!).
الأمر الثاني أن يستحضر نعم الله عليه، وستره له، فكيف لا يستحي ممن يطعمه ويسقيه ويغدق عليه النعم والهدايا، كيف لا يستحي أن يسئ إلى من أحسن إليه على مرأى ومسمع منه!!
ومن أثر هذا الخلق وعظيم فضله على المؤمن أنه يكون رادعا له يمنعه من فعل المعصية واقتراب الذنوب، فيُعفى من العتاب والعقاب، يوم عرض على الحي القيوم.